مرحبا بكم

السلام عليكم و رحمة الله و بركاته موقع الاستاذ خالد قاسم مدير وحدة ضمان الجودة بادارة الحامول يرحب بكم

اسلاميات

وفاة الرسول
د. راغب السرجاني

وفاة الرسول لا أعتقد أن رجلاً في التاريخ منذ نزول آدم إلى هذه الأرض، وإلى يوم القيامة، نال أو سينال حبًّا وتقديرًا وإجلالاً، مثلما نال رسولنا الكريم محمد r، ويكفي أن نفكر في هذه الكلمة البسيطة التي ألفنا سماعها، واعتدنا ذكرها، فلم نقدر لها قدرها الحقيقي، وقيمتها الأصلية، كلمة (رسول)، رسول من؟



إنه رسول الله، الله U، الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما، الذي خلق الشمس والقمر والنجوم والكواكب، الذي خلق الجبال والبحار والأنهار، الذي خلق الإنس والجان والملائكة، العزيز الذي لا يُغلب، الحكيم الذي تناهت حكمته، الحي القيوم الذي لا ينام، الله U، الرحيم بخلقه، الكريم، الحنان المنان.



الله U أرسل إلى خلقه رسولاً يبلغهم رسالته، الله U في علوه وكبريائه وعظمته، أرسل إلى الخلق الضعيف البسيط القليل، أرسل إليهم رسولاً منهم، أيّ تشريف! وأيّ تعظيم! وأيّ تكريم!



وإذا كان البشر قد كُرموا بإرسال الرسول إليهم، فكيف الذي اصطفاه الله من بلايين بلايين الخلق لكي يرسله إلى الناس برسالته؟



رسول الله محمد r صنعه الله على عينه، خلقه، ورباه، وعلمه، وأدبه، وحسن خلقه، وقوى حجته، وزكى سريرته، وطهر قلبه، وجمل صورته، وحببه في خلقه، وحبب الخلق جميعًا فيه، فلا يراه أحد إلا وأحبه، ولا يسمع به أحد إلا وأحبه، ولا يقرأ عنه أحد إلا وأحبه، رسول الله r خير البشر، وأفضل الدعاة، وسيد المرسلين، وخاتم النبيين، هذا رسول الله r لا يُوّفى حقه في مجلدات ومجلدات، ولا في أعوام وأعوام، فقد وضع الله فيه خلاصة الفضائل البشرية، وكلما تعرضت لجانب من جوانب حياته r حار عقلك، كيف كان على هذه الصورة البهية النقية؟



ولا تملك إلا أن تقول: سبحانه الذي صوره فأحسن تصويره، وأدّبه فأحسن تأديبه، وعلّمه فأحسن تعليمه.



وكان رسول الله r على علو قدره، وسمو منزلته، يعيش وسط أصحابه، ويخالطهم، كان يُوَجّههم ويعلمهم، كان يتحمل الأذى معهم، ويجوع مع جوعهم، أو أكثر، ويتعب مع تعبهم أو أشد، يهاجر كما يهاجرون، ويقاتل كما يقاتلون، ويحفر الخندق كما يحفرون، وكان r يأكل مما يأكل منه الناس، ويشرب مما يشرب منه الناس، ويجلس على ما يجلس عليه الناس، لم تزده كثرة الأذى إلا صبرًا، ولم يزده إسراف الجاهلين إلا حلمًا، ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرها، ما لم يكن إثمًا، فإن كان إثمًا كان أبعد الناس عنه، وما انتقم لنفسه قط، إلا أن تنتهك حرمة الله، فينتقم لله بها..



وكان أكثر الناس كرمًا، وأقواهم بأسًا، وأشدهم حياء، وكان يمنع الناس من القيام له، وكان يعود المساكين، ويجالس الفقراء، وتسير به الأَمَة في شوارع المدينة أينما شاءت، وكان يخصف نعله، ويخيط ثوبه، ويحلب شاته، وكان فوق هذا متصلاً بالسماء، متصلاً برب العالمين، يأتيه الوحي صباحًا ومساء، يخبر الناس بما يريده ربهم منهم، يعدل لهم المسار، ويقوم لهم المناهج، ويفسر لهم ما شكل عليهم، ويوضح لهم ما خفي عنهم، اعتاد الصحابة على وجوده، فكان لا يعتزل عنهم أبدًا، يرونه في كل صلاة، وفي كل لقاء، وفي كل جمع، يشهد الجنازة، ويعود المرضى، ويدعو لهم، ويزور الصحابة في بيوتهم، ويزورونه في بيته، وأحبه الصحابة حبًّا لم يحبوه قط لأحد غيره، قدموه على حب الولد والوالد، وعلى حب الزوج والعشيرة، وعلى حب المال والديار، بل قدموه على حب النفس، حتى يتمنى الصحابي أن يموت، ولا يشاك رسول الله r شوكة في قدمه..



وما كان الصحابي يصبر على فراقه، فإذا عاد الصحابي إلى بيته أسرع بالعودة إلى المسجد حتى يرى رسول الله r، وحتى بكى بعضهم؛ لأنه سيفارقه يوم القيامة في الجنة لعلو منزلته، حتى بشرهم بأن المرء يحشر مع من أحب، عاش الصحابة في هذه السعادة التي لم تُعرف، ولن تُعرف في التاريخ، سعادة مصاحبته، ورؤيته، والسماع منه، والانصياع له r، عاشوا على ذلك فترة من الزمن، حتى أذن الله U برحيل الحبيب r عن دار الدنيا إلى دار الخلد، في جنات النعيم، إلى الرفيق الأعلى، إلى راحة، لا تعب فيها، ولا نصب، ولا وصب، ورسول الله r بَشَر، والبشر يموتون {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزُّمر: 30].


فتنة موت النبي r :

مع يقين الصحابة بذلك، وثقتهم من بشريته r، إلا أنهم ما تخيلوا أن ذلك الموت سيحدث حقيقة، فتنة عظيمة، ومصيبة كبيرة، وبلاء مبين، ما صدق الصحابة رضوان الله عليهم إذا كان رسول الله r قد مات حقًّا..



فكيف الحياة بدونه؟



وراء من يصلون؟



وإلى نُصح من ينصتون؟



من يعلمهم؟



من يربيهم؟



من يبتسم في وجوههم؟



من يرفق بهم؟



من يأخذ بأيديهم؟



كارثة وأي كارثة، وأظلمت المدينة، وأصاب الحزن والهم والكمد كل شيء فيها، كل شيء، ليس الصحابة فقط، بل نخيل المدينة، وديار المدينة، وطرق المدينة، ودواب المدينة، إذا كان جذع نخلة قد حن لرسول الله r لما فارقه؛ ليخطب من فوق المنبر بدلاً منه، حتى سمع الصحابة لجذع النخلة أنينًا، وما سكن حتى جاء رسول الله r فمسح بيده على الجذع حتى سكن، إذا كان الجذع فعل ذلك ورسول الله فارقه إلى منبر يبعد خطوات معدودات، فكيف بفراق لا رجعة فيه إلى يوم القيامة، والصحابة..



ماذا يفعلون؟



أتطيب نفوسهم أن يهيلوا التراب على رسول الله r؟



تقطعت قلوب الصحابة، وتمزقت نفوسهم، وتحطمت مشاعرهم، يقول أنس بن مالك t: "ما رأيت يومًا قطّ كان أحسن ولا أضوأ، من يوم دخل علينا فيه رسول الله r، وما رأيت يومًا قطّ كان أقبح ولا أظلم، من يوم مات فيه رسول الله r".



المصيبة أذهبت عقول الأشداء من الرجال، وأذهلت ألباب الحكماء منهم، تاهوا جميعًا حتى وقف عمر بن الخطاب t، وما أدراك ما عمر بن الخطاب في عقله ورزانته وحكمته وإلهامه، وقف وقد أخرجته الكارثة عن وعيه يقول: "إن رجالاً من المنافقين يزعمون أن رسول الله r توفي، وإن رسول الله r ما مات. يقول ذلك في يقين، هو لا يصدق فعلاً أنه مات. يقول عمر: لكن ذهب إلى ربه، كما ذهب موسى بن عمران، فغاب عن قومه أربعين ليلة، ثم رجع إليهم بعد أن قيل قد مات، ووالله ليرجعن رسول الله r، فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم يزعمون أنه مات".



وإذا كان عمر كذلك، فكيف بغيره من الصحابة؟



قال أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب t، ابن عم رسول الله r:



لَقَدْ عَظُمَتْ مُصِيبَتُنَا وَجَلَّتْ *** عَشِيَّةَ قِيلَ قَدْ قُبِضَ الرَّسُولُ



وَأَضْحَتْ أَرْضُنَا مِمَّا عَـرَاهَا *** تَكَادَ بِنَـا جَوَانِبُهَا تَمِيـلُ



فَقَدْنَا الْوَحَيَ وَالتَّنْزِيلَ فِينَـا *** يَرُوحُ بِهِ وَيَغْـدُو جِبْرَائِيـلُ



وَذَاكَ أَحَقُّ مَا سَالَتْ عَلَيْهِ *** نُفُوسُ النَّاسِ أَوْ كَـادَتْ تَسِيلُ



نَبِيٌّ كَانَ يَجْلُو الشَّكَ عَنَّا *** بِمَا يُوحَى إِلَيْهِ وَمَـا يَقُـولُ



وَيَهْدِينَا فَلاَ نَخْشَى ضَلاَلاً *** عَلَيْنَا وَالرَّسُـولُ لَنَـا دَلِيـلُ



أَفَاطِمُ إِنْ جَزَعْتِ فَذَاكَ عُذْرٌ *** وَإِنْ لَمْ تَجْزَعِي ذَاكَ السَّبِيلُ



فَقَبْرُ أَبِيكِ سَيِّدُ كُلِّ قَبْرٍ *** وَفِيهِ سِيِّـدُ النَّـاسِ الرَّسُـولُ



يقول أنس بن مالك t: "لما قُبِض رسول الله r أظلمت المدينة، حتى لم ينظر بعضنا إلى بعض، وكان أحدنا يبسط يده فلا يراها، وما فرغنا من دفنه حتى أنكرنا قلوبنا".


موقف الصديق t :

وبينما هم كذلك إذ جاء الصديق الجبل أبو بكر t وأرضاه، وجزاه خيرًا كثيرًا عما قدمه لأمة الإسلام، جاء الصديق من السنح (منطقة خارج المدينة) بعد أن وصله النبأ هناك، وإن تخيل أحدنا أن صحابيًّا سوف يموت حزنًا، وهمًّا، وكمدًا لفراق الرسول r، فلا شك أننا جميعًا سنقول إنه الصديق t، أشد الخلق حبًّا لرسول الله r، وأقرب الرجال إلى قلب رسول الله r، لا شك قد يخطر ببال الناظر للأحداث أن الصديق سيفعل أكثر مما فعل عمر بن الخطاب مثلاً، لكن سبحان الله، إنه الصديق أبو بكر t وأرضاه، أقبل أبو بكر على فرسه من مسكنه بالسنح، ونزل عند مسجد رسول الله r، فلم يكلم الناس، ودخل المسجد، ومنه دخل إلى بيت عائشة حيث مات رسول الله r على حجرها، فتوجه إلى رسول الله r، وهو مغطى بثوب، فكشف عن وجهه، ثم أكب عليه، فقبله وبكى، عبرات لا بد منها، نزلت ساخنة حارة على وجنتي الصديق t، حبيب عمره، ودرة قلبه، وقرة عينه، ثم قال الصديق وقلبه ينفطر: "بأبي أنت وأمي، لا يجمع الله عليك موتتين، أما الموتة التي كتبت عليك، فقد متها".



ثم خرج في ثبات عجيب يليق بخير الأمة بعد نبيها، ويليق بأول من سيدخل الجنة من أمة المسلمين بعد رسول الله r، كيف يجزع ويخرج عن المنهج، وهو الصديق؟ خرج الصديق t، فوجد عمر في ثورته يتكلم مع الناس، والناس يلتفون حوله يتمنون أن لو كان كلامه حقًّا، وأن رسول الله r سيعود ثانية كما يقول، قال الصديق في ثبات ورباطة جأش عجيبة: اجلس يا عمر.



لكن عمر قد أذهلته المصيبة عن السماع، فلم يجلس، وظل على حاله، لكن الناس وجدوا وزير رسول الله r الأول أبا بكر، فتركوا عمر والتفوا حول الصديق ينتظرون ما يقول، قال أبو بكر الصديق في فهم عميق وحكمة بالغة:



أما بعد، من كان منكم يعبد محمدًا r، فإن محمدًا قد مات، ومن كان منكم يعبد الله فإن الله حي لا يموت. وفي براعة ولباقة وتوفيق قرأ الآية الكريمة: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 144].



الصديق رجل عجيب يعيش مع القرآن في كل حركة، وفي كل سكنة، ما أروع الاختيار، وما أبلغ الأثر الذي أحدثته الآية الربانية في قلوب الصحابة، يقول ابن عباس رضي الله عنهما: "والله لكأن الناس لم يعلموا أن الله أنزل هذه الآية حتى تلاها أبو بكر، فتلقاها الناس كلهم، فما أسمع بشرًا من الناس إلا يتلوها".



أفاق الناس وبدءوا في البكاء الشديد، كانت الآية سلوى للمؤمنين، وتعزية للصابرين، وجزاء للشاكرين، ووصلت الآية إلى أسماع عمر بن الخطاب t، يقول عمر t: "والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها، فَعَقِرْت (عَقِرَ: إِذا بقي مكانه لا يتقدم ولا يتأَخر فزعًا أَو أَسَفًا أَو خجلاً) حتى ما تقلني رجلاي، وحتى أهويت إلى الأرض، حين سمعته تلاها علمت أن النبي r قد مات.

إنا لله وإنا إليه راجعون، وثَبّت الله الأمة بثبات الصديق t وأرضاه، واحدة من أعظم حسناته t، وما أكثر حسناته.



ومع كون فتنة موت الرسول r، وفراقه إلى يوم القيامة فتنة عظيمة، ومصيبة هائلة، إلا أنها لم تكن الفتنة الوحيدة التي مرت بالمسلمين في هذه الأيام الحزينة، فإلى جوار فتنة الموت والفراق كانت هناك فتن أخرى عظيمة، كان منها:


فتنة انقطاع الوحي :

فكما ذكرنا من قبل، كانت أم أيمن رضي الله عنها تبكي بعد وفاة رسول الله r، وكانت تعلل ذلك بأنها تبكي؛ لأن الوحي انقطع من السماء، وانقطاع الوحي من السماء لا شك أنه فتنة عظيمة، وجبريل u لن ينزل على بشر إلى يوم القيامة، فرسولنا الكريم r هو خاتم الأنبياء، لا شك أن البشر سيخطئون كثيرًا، ويحتاجون إلى تقويم وإصلاح، من يقوم بذلك؟ عليهم أن يقوموا بذلك بأنفسهم، المنهج الإسلامي الكامل المتكامل أعطى لهم هذه الصلاحيات لإكمال مسيرة الحياة إلى يوم القيامة بدون رسل، ولا أنبياء، ولا وحي، لكن لا شك أن الفترة التي أعقبت وفاة الرسول r كانت تمثل عبئًا ثقيلاً على نفوس الصحابة، وقلقًا بالغًا من أن يفشلوا في حل أمورهم دون وحي..



ولا شك أنهم سيختلفون كثيرًا، فمن يكون على صواب، ومن يكون على خطأ، عليهم أن يحكموا بالمنهج المتروك في أيديهم القرآن والسنة، لكن ستظل طوائف المؤمنين تخطئ، وهي تظن أنها على صواب، الوحي كان يفصل في هذه الأمور فصلاً لا يدع مكانًا للريبة، والآن انقطع الوحي، الرجل في زمان رسول الله r كان يسير على الأرض، ويعلم أنه من أهل الجنة، يوقن بذلك إذا بشره رسول الله r يقينه بما نزل على محمد r، وتخيل معي كيف يطيق رجل صبرًا أن يسير على الأرض، وهو يعلم أنه من أهل الجنة، هذا الذي جعل عمير بن الحمام في غزوة بدر يلقي بالتمرات، لما بشره رسول الله r بالجنة ويقول: "لئن أحيا حتى آكل تمراتي إنها لحياة طويلة".



بلال، بشره رسول الله r بالجنة، فإذا به على فراش موته سعيدًا لأنه سيموت، يقول: "غدًا ألقي الأحبة، محمدًا وصحبه".



وهكذا أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وبقية العشرة، وهكذا عبد الله بن مسعود، وهكذا خديجة، وعائشة، وسائر أمهات المؤمنين، وهكذا مئات وآلاف بَشّرهم بالجنة، أما الآن بعد أن انقطع الوحي، فلا أحد يدري أهو من أهل الجنة أم من أهل النار؟



وعجبت لمن يضحك، كيف؟ وهو على يقين من ورود النار {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا} [مريم: 71].



ثم هو لا يعلم أيجوز الصراط إلى الجنة أم يسقط في النار؟ رسول الله r كان يخبرهم عن كثير من أمور الغيب بالوحي، يبشرهم بنصر بدر، يبشرهم بالفتح، يبشرهم بالشام، وفارس، واليمن، يخبرهم عما كان، وعما هو كائن، وعما سيكون إلى يوم القيامة، الآن بعد انقطاع الوحي أغلق باب المستقبل، لا تعرف منه إلا ما أنبأنا به الرسول r قبل أن يموت، لكن كم من الأمور ستحدث كنا نتمنى أن نعرف عاقبتها، أترانا سنفوز أم سنخسر؟



وأحداث العالم كيف ستئول في النهاية؟



الله أعلم، الفرس انتصرت على الروم، والرسول يبشر: {غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ للهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ المُؤْمِنُونَ} [الروم: 2، 3، 4].



الآن لا نعرف على وجه اليقين، نعم ترك لنا رسول الله r منهاجًا واضحًا من قرآن وسنة، نستقرأ به سنن الله في الأرض، ونستنبط به النتائج قبل أن تحدث، لكن ستظل كثيرًا من الأمور معروفة على وجه الظن لا اليقين، ويقين الوحي لا عودة له حتى تنتهي حياة الأرض، وتقوم القيامة، فتنة كبيرة، لا شك أنها أذهلت الصحابة وسيبدأ طريق مليء بالأشواك، وعليهم أن يعتمدوا على أنفسهم في السير بعد فقد القائد العظيم، والدليل الأمين محمد r. إذن كانت هناك فتنة فراق أحب الخلق إلى قلوب الصحابة، وكانت هناك أيضًا فتنة انقطاع الوحي.


مَن الخليفة بعده r ؟

مَنْ مِنَ الرجال يجلس في كرسي الحكم مكان رسول الله r؟

رسول الله r لم يكن نبيًّا فقط، ولكن كان أيضًا حاكم المسلمين، فإن كانت النبوة قد ختمت به r، فالحكم لا بد أن يستمر، مَن مِن الصحابة الكرام يكمل المسيرة ويحمل الراية؟



أمر خطير، وخطورته ليست في احتمال التكالب على السلطة، والتنازع فيها كما يحدث في بلدان العالم المختلفة إذا مات قائد أو زعيم، كلا، ولكن لاعتبارات خاصة جدًّا بهذه الفترة:



أولاً: لا يوجد في الصحابة، ولا في أهل الأرض جميعًا من يساوي، أو يقترب في الفضل، والمكانة من رسول الله r، والذي سيوضع في مكانه كحاكم لا بد وأنه سيقارن به r، وستكون المقارنة ظالمة، ولا شك، فهذا رسول يوحى إليه من ربه وهذا رجل يجتهد قد يصيب، وقد يخطئ.



ثانيًا: مَن مِن الصحابة ستطيق نفسه أن يجلس في هذا المكان؟ الصحابة على خلاف أهل الأرض في ذلك الزمان، أو في أي زمان، كانوا لا ينظرون إلى الإمارة على أنها تشريف، وتعظيم، ولكن كانوا يعتبرونها تكليفًا وتبعة، ففضلاً عن أنهم لا تطيب أنفسهم بالحكم، بدلاً من نبيهم، فهم تعلموا منه r أن يزهدوا في الإمارة ولا يطلبونها، روى مسلم عن أبي ذر t قال: قلت: يا رسول الله، ألا تستعملني؟ فضرب بيده على منكبي ثم قال: "يَا أَبَا ذَرٍّ إِنَّكَ ضَعِيفٌ، وَإِنَّهَا أَمَانَةٌ، وَإِنَّهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ خِزْيٌ وَنَدَامَةَ، إِلاَّ مَنْ أَخَذَهَا بِحَقِّهَا".



ترى مَنْ مِنَ الصحابة يضمن أن يأخذها بحقها، ومن يُعرّض نفسه لحمل الأمانة، ومن يضع نفسه يوم القيامة موضع سؤال عن تبعات عظيمة، تبعات الإمامة.



ثالثًا: إذا كان ولا بد أن يختار رجل من الصحابة لهذا الأمر الجليل، من يكون هذا الرجل؟



الصحابة جميعًا أعلام يُقتدى بهم، طاقتهم عظيمة، وإمكانياتهم واسعة، والمؤهل ليكون حاكمًا على الناس، أو أميرًا عليهم كُثُر، إذا نظرت إلى المهاجرين مثلاً فهناك:



الصديق أبو بكر، وهناك الفاروق عمر، وهناك أمين الأمة أبو عبيدة، وهناك ذو النورين وزوج ابنتي رسول الله r عثمان، وهناك ابن عم رسول الله r وزوج ابنته علي، وهناك العباس عم رسول الله r، وهناك سعد بن أبي وقاص خال رسول الله r، وهناك الزبير بن العوام حواري رسول الله r، وهناك طلحة بن عبيد الله طلحة الخير وهناك غيرهم كثير، عبد الرحمن بن عوف، سعد بن زيد.



وهناك شيوخ مكة الذين أسلموا في الفتح، ولهم من الهيبة في قلوب العرب: أبو سفيان، وسهيل بن عمرو، وصفوان بن أمية، وغيرهم.



وإذا نظرت إلى الأنصار وجدت أيضًا فريقًا من العظماء كبير، وإن كانت الأسماء المطروحة للزعامة أقل من المهاجرين لكون الأنصار من قبيلتين فقط الأوس والخزرج، فزعيم الخزرج هو: سعد بن عبادة، ومن أقوى الأسماء المرشحة، أما من الأوس فهناك على سبيل المثال: أسيد بن حضير سيد الأوس، وهناك عباد بن بشر من أفضل الأنصار، تقول السيدة عائشة رضي الله عنها ثلاثة من الأنصار لم يجاوزهم في الفضل أحد: "سعد بن معاذ، وأسيد بن حضير، وعباد بن بشر".



وبالطبع سعد بن معاذ استشهد قبل ذلك بكثير، استشهد بعد أن أقر الله عينه من بني قريظة في سنة 5 من الهجرة، كل واحد من هذه الأسماء، سواء من المهاجرين، أو الأنصار لا تنقصه الكفاءة، ولا القدرة على القيادة، كذلك لا ينقص أحدهم التقوى، فمن يحمل الراية؟


الأعداد الضخمة التي دخلت في الإسلام حديثا :

لم تكن هذه هي الفتن الوحيدة في هذه الفترة، بل كان هناك فتن أخرى عظيمة وخطيرة، الأعداد المهولة التي دخلت في الإسلام حديثًا، ولم تتلق تربية كافية في محضن الرسول r، بل إن كثيرًا منهم دخل الإسلام طمعًا في المال، والثراء، طائفة المؤلفة قلوبهم، تألف رسول الله r قلوبهم بالمال والغنائم حتى يدخلوا في الإسلام، ولنراجع بعض الأرقام:



فتح مكة سنة 8 من الهجرة، فَتح مكة عشرة آلاف مؤمن بقيادة رسول الله r، وبعدها بقليل كانت حنين، والطائف، وكانت الغنائم وفيرة جدًّا، وأعطى رسول الله r رءوس القوم، وأعطى عوام الناس، وأعطى، وأعطى، حتى دخل الناس في دين الله أفواجًا، ذكر ذلك ربنا U في كتابه الكريم: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْوَاجًا} [النَّصر :1، 2].



بعد فتح مكة بحوالي سنة كانت غزوة تبوك سنة 9 من الهجرة ثلاثون ألف مسلم، تضاعف الرقم من سنة 8 إلى 9 هجرية ثلاث مرات، وهو تضاعف كبير في هذه الفترة الوجيزة، أعجب من ذلك حجة الوداع سنة 10 من الهجرة بعد سنة من تبوك، حدث تضاعف مهول في عدد المسلمين، حج مع رسول الله r أكثر من مائة ألف مسلم، هذا غير عشرات الآلاف من الذين دخلوا الإسلام في قبائلهم البعيدة عن المدينة، ولم يسعدوا برؤية الرسول r، هذه الآلاف المؤلفة من المسلمين الذين ارتبطوا بالإسلام فقط، منذ شهور، ولم يسمعوا من رسول الله r إلا الكلمات القليلات، وبعضهم لم يره أصلاً، وبعضهم دخل لأجل المال، وبعضهم دخل لأجل الخوف من القوة الإسلامية الناشئة، وكلهم حديث عهد بجاهلية وإشراك، هذه العوامل جميعًا، وغيرها جعلتهم على خطر عظيم، وبخاصة إذا وصل إليهم نبأ وفاة الرسول r، ترى ماذا سيكون رد فعلهم؟



أتراهم يتشككون في أمر الرسالة؟



أتراهم يعتقدون أن الخروج عن جماعة المسلمين أصبح أمرًا ميسورًا؟



أتراهم يرتدون على أعقابهم ويعودون إلى جاهليتهم وشركهم؟



كل هذه الاحتمالات واردة، ولا شك الصحابة في المدينة، كانوا يفكرون في هؤلاء القوم، ويتسمعون أخبارهم، ويخافون من ردتهم على الإسلام، هذه المشاعر المتزاحمة من قلق، وخوف، وتربص، وحيرة زادت الأزمة في المدينة تفجرًا واضطرابًا، ولا شك أن هذا زاد من ظلمة المدينة بعد غياب النور المبين محمد r.


مُدّعو النبوة والمرتدون :

فتنة مظلمة أخرى تحيط بالصحابة، الرِّدة الفعلية لبني حنيفة، ولأهل اليمن، جاءت الأنباء قبل وفاة رسول الله r بظهور من يَدّعي النبوة في هذه البلاد، ظهر مسيلمة الكذاب في بني حنيفة، في اليمامة شرق الجزيرة، وظهر في اليمن الأسود العنسي، وتبع هذا وذاك آلاف مؤلّفة؛ قبلية وعصبية، وجهل، وشك، وكِبر، وسفه، تبع مسيلمة ما يزيد على الأربعين ألفًا.



هؤلاء مرتدون بالفعل، ومن المؤكد أنهم يتربصون بالمدينة الدوائر، ومن أدرى الصحابة أنهم يعدون العدة لغزو المدينة، ولاستئصال الإسلام من جذوره، هذا خطر داهم، لا شك أن الصحابة كانوا يترقبونه.


المنافقون :

أضف إلى هذا كثرة المنافقين بالمدينة المنورة، نذكر أنه منذ أقل من عامين كانت هناك أعداد ضخمة من المنافقين يسكنون المدينة أيام تبوك، ولا شك أنهم يتزايدون مع زيادة قوة الإسلام، ولا شك أيضًا أنهم ينتظرون الفرصة للانقلاب على الإسلام والمسلمين، وقد أرادوا قتل الرسول r قبل ذلك ولكن فشلوا، وها هو الرسول r قد مات، وهذه مصيبة ضخمة، ولا شك أن سعادتهم بهذه المصيبة كبيرة {إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ} [التوبة: 50].



ترى ماذا سيفعل المنافقون؟



سؤال يتردد في أذهان الصحابة، ولا شك.


الفرس والروم :

ثم هل هذا هو كل الشر الذي يتربص بالمدينة؟

أبدًا، كم من الأعداء يتربص وكم من الكارهين يرقب، الفرس دولة عظمى مجاورة، وقد كان بين الرسول r، وبين ملكها كسرى مراسلات يعرض فيها رسول الله r عليه الإسلام، لكن أبى كسرى فارس، بل مزق رسالة رسول الله r، ثم إن رسول الله r قد ضم إلى دولة المسلمين قبل أن يموت منطقة اليمن، وكانت تتبع دولة فارس، ثم إن رسول الله r أدخل في الإسلام حكام اليمن الفارسيين، وأفسد على كسرى فارس هذه المنطقة وأهلها، ترى ماذا سيفعل كسرى فارس بعد هذه المصيبة التي حلت على المسلمين؟



أتراه يعيد الكرة في احتلال اليمن، أم يفكر فيما هو أبعد من ذلك ويغزو المدينة ومكة؟



أسئلة بلا إجابة.



الروم الدولة العظمى الأخرى على الساحة العالمية في ذلك الزمان، تحتل كامل الشام وآسيا الصغرى، بالإضافة إلى شرق أوربا بأكمله، دولة ضخمة مهولة، على رأسها قيصر الروم هرقل، دولة الروم العظمى لها تاريخ مع دولة الإسلام الناشئة في المدينة، أرسل رسول الله r رسالة إلى هرقل يدعوه للإسلام، وهرقل قد مال قلبه للإسلام، لكن منعه قومه، ودفعوه إلى الكفر برسول الله r، ليس هذا فقط، بل دفعوه أيضًا إلى تحريض قبائل غسان العربية في الشام على المسلمين، ومن ثم قُتل بعض رسل الإسلام المبعوثين إلى تلك المناطق..



وغرق بذلك هرقل في مستنقع الكفر، وهكذا بطانة السوء، ومن رضي ببطانة السوء، المهم أنه نتيجة هذا الإعراض عن الرسالة، وهذا التحرش بالمسلمين، نتجت موقعتان بين المسلمين والروم، نتجت سرية مؤتة في سنة 8 من الهجرة، وهذه كانت سرية عجيبة ثبت فيها المسلمون بثلاثة آلاف مقاتل أمام مائتي ألف من الروم المقاتلين، وقتل من المسلمين زعماؤهم الثلاثة، ثم استطاع خالد بن الوليد t بتكتيك رائع أن ينسحب بجيشه دون هزيمة من الروم، بل عند التحليل الصادق للمعركة يثبت فرار الروم، وخشيتهم من الجيش الإسلامي، وما حدث من فرار لبعض المسلمين حتى وصلوا إلى المدينة في فرارهم لم يكن إلا طائفة محدودة، لكن بصرف النظر عن كل شيء، فقد تراءى للروم ثبات المسلمين، وخطورتهم، وعلموا أن بأسهم شديد، وقتالهم شرس..



ومرت سنة واحدة على مؤتة وجاء ما هو أعظم، حشد المسلمون ثلاثين ألفًا من المقاتلين الأشداء في غزوة تبوك العظيمة سنة 9 من الهجرة، ومع قلة إمكانيات المسلمين المادية من سلاح ومئونة، إلا أن معنويات الجيش كانت مرتفعة جدًّا، وتحركت الجموع الإسلامية إلى مسافات بعيدة جدًّا عن المدينة دون وجل ولا خوف، وفر الجيش الروماني، وأعوانه من نصارى الشام العرب من أمام الجيش الإسلامي، ولا شك أن الرومان سمعوا بأنباء بعث أسامة بن زيد رضي الله عنهما، والذي جهزه رسول الله r قبل وفاته بقليل حتى يغزو الشام، ويقاتل الروم، والقبائل المناصرة لها، ولا شك أنهم يعلمون أن الجيش الإسلامي ما زال رابضًا في المدينة بعد خبر وفاة رسول الله r، ماذا سيكون رد فعل الرومان، والقبائل المتحالفة معهم أمام هذا الحدث، أتراهم يستغلون الفرصة، ويهاجمون المدينة حيث إن خير وسيلة للدفاع هي الهجوم؟



هل يستغلون انشغال المسلمين بالمصيبة الكبيرة، ويحالفون عددًا أكبر من القبائل، ويحاصرون الجيش الإسلامي في المدينة قبل خروجه؟



أم تراهم سينقلبون على القبائل المسلمة في شمال الجزيرة العربية؟



لا شك أن الروم سيتربصون بالمسلمين، وجذور العلاقة توحي بأن ذلك سيكون قريبًا، كيف يتعامل المسلمون مع هذا التوقع؟



سؤال يحتاج إلى إجابة.


اليهود:

ماذا سيكون رد فعلهم بعد أن يعلموا بهذا الخبر الهام، وفاة الرسول r، جذور العداء تاريخية مع اليهود، ومن أول يوم سمعوا فيه بأمر الرسالة، وهم يكيدون لها، وحاولوا من قبل قتل رسول الله r، وقلوبهم تغلي بالحقد على المسلمين، وكراهيتهم للإسلام والمسلمين ثابتة في كتاب الله، وستظل الكراهية موجودة بين الفريقين إلى يوم القيامة {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا اليَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} [المائدة: 82].



اليهود منذ عشر سنوات كانوا من أعظم تجار الجزيرة العربية، كانوا يتاجرون في كل البضائع، وبالذات في السلاح والخمور والربا، وكان لهم سطوة وبأس، وكانت لهم حصون وقلاع، وكانت لهم قبائل وأعوان، وكانت لهم مكانة علمية ودينية؛ لكونهم من أهل الكتاب، ثم جاء رسول الله r إلى المدينة، فسحب البساط من تحت أرجلهم، وانتقلت الزعامة الدينية في الأرض إلى المسلمين، ليس هذا فقط، بل دارت حروب ومعارك لا تنسى بينهم وبين المسلمين، كانت الغلبة فيها كلها للمسلمين، في بني قينقاع، وبني النضير، وبني قريظة، وخيبر، وتشتت قوة اليهود، وتفرقت وتحطمت، وها هي السيدة صفية بنت حيي تصبح الآن زوجة لرسول الله r، وأمًّا للمؤمنين وهي التي كانت بنت زعيم اليهود حيي بن أخطب، ها هي الأحقاد تتزايد على المسلمين، وعلى رسول الله r، ثم مات رسول الله r، ماذا سيفعل اليهود الآن؟



لقد تم قتل يهود بني قريظة من قَبل، وأجلا رسول الله r بني قينقاع وبني النضير من المدينة، لكن ما زال هناك يهود خيبر، وهم ليسوا بالقليلين في حصنهم شمال المدينة، أتراهم يدبرون مؤامرة لحرب المسلمين وينقضون عهدهم المبرم مع رسول الله r؟



هذا أمر وارد جدًّا، اشتهر اليهود على مدار تاريخهم منذ أيام أنبيائهم الكرام، ومرورًا بعهد رسول الله r، ثم إلى عهدنا الآن، وإلى يوم القيامة، اشتهروا بنقض العهود، وبالتعامل بالخيانة، والدس، والكيد، والتآمر، اشتهروا في وقت ضعفهم بالذل، والمسكنة، والخنوع، والنفاق، واشتهروا في وقت قوتهم بالإفساد في الأرض، والتدمير والتخريب، إذن فساد اليهود متوقع وخيانتهم قريبة لكن كيف ستكون؟



سؤال لا شك أنه كان يجول في خاطر الصحابة بعد وفاة رسول الله r.



ما أصعب الموقف بعد وفاة رسول الله r، وما أعقده وما أحزنه.



تعالوا نقف وقفة نلتقط فيها الأنفاس، ونعيد ترتيب الأوراق، ونفكر مع الصحابة، مجموعة من الفتن الخطيرة تناوش المدينة فجأة:



أولاً: مات أحب الخلق إلى قلوب الصحابة، وفراقه مصيبة.



ثانيًا: انقطع الوحي بالكلية إلى يوم القيامة.



ثالثاُ: ليس هناك من يقارب رسول الله r في الفضل حتى يستبدله الناس به.



رابعًا: الأسماء المطروحة لخلافة الرسول r كثيرة وكلها عظيمة.



خامسًا: أعداد كبيرة جدًّا، ما دخلت الإسلام إلا منذ سنوات، أو شهور قليلة، وكثير منهم من المؤلّفة قلوبهم ضعيفي الإيمان.



سادسًا: الردة الخطيرة الموجودة في بني حنيفة واليمن.



سابعًا: كثرة المنافقين بالمدينة وتربصهم الدوائر بالمسلمين.



ثامنًا: دولة الفرس المعادية تلتصق حدودها بالدولة الإسلامية من جهة الشرق وقد تغزوها.



تاسعًا: دولة الروم المعادية أيضًا تلتصق حدودها بالدولة الإسلامية من جهة الشمال، وجذور العلاقة توحي بلقاء حربي قريب.



عاشرًا: اليهود في خيبر تغلي قلوبهم كالمرجل وخيانتهم وشيكة.



إذن هذه فتنة ضخمة، الواحدة منها قد تعصف بأمة، بنو إسرائيل لما ظنوا مجرد الظن أن موسى u قد مات، وذلك عندما ذهب لميقات ربه أربعين ليلة ماذا فعلوا؟



عبدوا العجل، وفي وجود هارون النبي u، لكنه لم يكن في قوة موسى، فتمردوا عليه، وتعامل هو بالحكمة معهم، حتى يرجع موسى u، هذا في أربعين ليلة فقط، وليس عندهم يقين في موته، أما رسول الله r ميت بين أظهرهم، والكل يعلم أنه مات، كم من الرجال سيقلدون بني إسرائيل في فعلتهم الشنيعة؟



أمر خطير:



في هذا الموقف المعقد المتشابك والمدينة المنورة كالسفينة الصغيرة، في بحر هائج تتلاطمها الأمواج العاتية، وقد مات قبطانها في الموقف الرهيب الفريد، أين النجاة؟



بتحليل الموقف نجد أنه لا نجاة إلا باختيار سريع، وسريع جدًّا، لخليفة يخلف رسول الله r في حكم الدولة الإسلامية، فقدان الخلافة أو ضياع الخلافة كارثة مهولة، الخلافة والخليفة كالخيط ينتظم حبات العقد في عقد واحد جميل، بغير هذا الخيط ستضيع الحبات لا محالة، لا يشفع للحبات هنا كونها جميلة أو براقة، كذلك أمة الإسلام، إذا غاب منصب الخلافة فلن يجتمع المسلمون، ولو كانوا صالحين، فرقة هنا، وفرقة هناك، قبيلة هنا، وقبيلة هناك، دولة هنا، ودولة هناك، وستظل الفرقة في غياب الخلافة، وهذه هي مصيبتنا العظيمة في زماننا الآن، غابت الخلافة، وآخرها كانت الخلافة العثمانية، فتفرق المسلمون، حتى وإن كانت الخلافة ضعيفة، فهي واجبة فالاجتماع على ضعف خير من التفرق على قوة، وهذا أمر عام في كل حياة المسلمين، إذا اجتمعوا على رجل كانت البركة والقوة، وإذا تفرقوا كان الفشل والضعف، ورسول الله r يلفت النظر إلى ذلك حتى في أدق الأمور، روى أبو داود بإسناد حسن عن أبي سعيد الخدري، وعن أبي هريرة رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله r: "إِذَا خَرَجَ ثَلاثَةٌ فِي سَفَرٍ فَلْيُؤَمِّرُوا أَحَدَهُمْ".



والصحابة الكرام أفضل أهل الأرض بعد الأنبياء، وخير القرون في هذه الأمة، يفقهون هذه الحقائق بوضوح، ويعلمون مدى الخطورة المنتظرة لأي تأخير في اختيار هذا الخليفة مهما كان اسمه، لذلك قام الصحابة الكرام بمشروع أحسبه من أرقى، وأجَلّ المشاريع الحضارية في التاريخ، مشروع اختيار الخليفة، والقائد، والربان للسفينة، مع كل الأحزان والهموم، والآلام، لا بد أن تسير الحياة، ولا تتوقف لموت بشر أو زعيم، وإن كان رسول الله r.

في الثاني عشر من ربيع الأول من السنة الحادية عشرة للهجرة، اجتمع الأنصار أوسهم وخزرجهم لاختيار خليفة للمسلمين من بينهم، اجتمعوا في سقيفة بني ساعدة، وهي الدار التي اعتادوا أن يعقدوا فيها اجتماعاتهم المهمة، رأى الأنصار أن الخليفة لا بد أن يكون منهم؛ لاعتبارات كثيرة، ولذلك سارعوا إلى هذا الاجتماع الطارئ.



هذا الموقف لا بد وأنه سيثير أسئلة كثيرة في الذهن، وقد تُسأل هذه الأسئلة بحسن نية؛ وذلك للمعرفة والفقه والاستفادة، وقد تسأل بسوء نية؛ للطعن والكيد، والنيل من الصحابة ومن دولة الإسلام، يبرز من هذه الأسئلة سؤالان هامان ركز المستشرقون، وأتباعهم من العلمانيين سواء من أبناء الغرب، أو الشرق، أو من أبناء المسلمين عليهما، سؤالان الغرض منهما الطعن في الأنصار، وسيتبع السؤالان لا محالة أسئلة أخرى للطعن في المهاجرين، وبقية الصحابة:



السؤال الأول:

كيف تحرك الأنصار لاختيار خليفة في نفس يوم وفاة رسول الله r؟



أليس في قلوبهم حزن على نبيهم؟



يقول المستشرقون: إن الأنصار أرادوا الدنيا ورغبوا فيها وحرصوا عليها، فتسارعوا إليها، ولم يردعهم المصاب الفادح الذي ألمَّ بهم، هذا السؤال يتردد أيضًا في أذهان بعض المؤمنين للاستفسار، وللرد على شبهات الطاعنين.



السؤال الثاني:

لماذا أراد الأنصار الاستئثار بالخلافة دون المهاجرين، وأسرعوا إلى سقيفة بني ساعدة لترشيح رجل منهم؟



الحقيقة قبل أن نخوض في الإجابة عن هذين السؤالين الهامين أود أن أقدم بتعريف للأنصار..


من هم الأنصار ؟

يبدو أن كثيرًا من المسلمين لا يدركون معنى وقيمة الأنصار، الأنصار طائفة من البشر اتصفت بصفات عجيبة، ومرت بمراحل تربوية معينة، أنتجت في النهاية جيلاً من الرجال والنساء والأطفال من المستحيل أن يتكرروا في التاريخ بهذه الصورة، فعلاً، الأنصار ظاهرة فريدة، اتصفوا بصفات خاصة ظلت ملازمة لهم منذ أن أصبحوا أنصارًا، ومرورًا بكل مواقفهم، الأنصار نسمة رقيقة حانية هبت على دولة الإسلام الناشئة، ففاضت من بركتها، وخيرها على الأمة، ثم مرت النسمة، ولم تأخذ شيئًا لنفسها، سبحان الله، الأنصار قَدّموا، وقَدّموا، ولم يأخذوا شيئًا، وكلما جاءت الفرصة ليأخذوا يجعل الله أمرًا آخر، فيخرجون بلا شيء، يخرجون راضين بلا سخط، ولا ضجر، وكأن الله أراد أن يدخر لهم كامل الأجر، ولا يعجل لهم شيئًا في دنياهم.



الأنصار، وما أدراك ما الأنصار، روى البخاري عن البراء t قال: قال رسول الله r: "الأَنْصَارُ لا يُحِبُّهُمْ إِلاَّ مُؤْمِنٌ، وَلا يَبْغَضُهُمْ إِلاَّ مُنَافِقٌ، فَمَنْ أَحَبَّهُمْ أَحَبَّهُ اللَّهُ، وَمَنْ أَبْغَضَهُمْ أَبْغَضَهُ اللَّهُ".

هذا حديث يلخص المسألة، لا بد أن يعرف المسلمون قدر الأنصار قبل أن يخوضوا في أعراضهم، القضية قضية إيمان ونفاق، وقضية حب الله لعبد وبغض الله لعبد آخر، فالحذر الحذر من أي شبهة تغير على المؤمنين قلوبهم.



روى البخاري عن أبي هريرة t قال: قال رسول الله r: "لَوْلا الْهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَءًا مِنَ الأَنْصَارِ".



وروى البخاري ومسلم عن أنس بن مالك t أن رسول الله r قال للأنصار: "اللَّهُمَّ أَنْتُمْ مِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيَّ", قالها ثلاثًا.



وروى البخاري عن أنس t قال: قال رسول الله r للأنصار: "مَوْعِدُكُمُ الْحَوْضُ".



وغير ذلك كثير من الأحاديث في حقهم، هذا الحب الجزيل من رسول الله r للأنصار، ومن الأنصار لرسول الله r جعل الصحابة جميعًا يجلون الأنصار، ويقدرون قيمتهم، روى البخاري ومسلم عن أنس بن مالك t قال: خرجت مع جرير بن عبد الله البجلي في سفر فكان يخدمني, وجرير بن عبد الله هذا من أشراف قبيلة بجيلة، ومن أعلام العرب، وكان له شأن كبير في الجزيرة العربية قبل الإسلام، وفوق هذا فهو أسن، وأكبر كثيرًا من أنس بن مالك، هذا كله دفع أنس بن مالك أن يستنكر، أو يستغرب أن يخدمه جرير بنفسه، قال أنس: لا تفعل. فقال جرير: إني قد رأيت الأنصار تصنع برسول الله r شيئًا، آليت أن لا أصحب أحدًا منهم إلا خدمته.



وأنس من الأنصار، إذن يخدمه جرير الشريف y أجمعين، هذا التكريم والتبجيل من رسول الله r، ومن الصحابة للأنصار لم يأت من فراغ، وإنما أتى لنوايا صادقة، وأعمال متواصلة، وأخلاق حسنة، ولو نظرت إلى حال الأنصار لوجدت صفة أساسية تمثل ركيزة في بناء الأنصاري، تلك هي صفة الإيثار: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} [الحشر: 9].



محور حياة الأنصار أنهم يؤثرون على أنفسهم، هذا ليس وصف أصحابهم لهم، ولا حتى وصف رسول الله r لهم، بل وصف الله U الذي خلقهم، ويعلم سرهم ونجواهم، ويعلم ظاهرهم وباطنهم، ويعلم ما تخفي الصدور.

أثبت الله لهم الإيمان، ومحبة المهاجرين، وسلامة الصدر، والإيثار على الذات، والوقاية من شح النفس، وفي النهاية أثبت لهم الفلاح، أيّ فضل! وأيّ قدر! وأيّ درجة! وأيّ مكانة! لا بد أن نعرف هذه الأمور قبل أن نأتي، ونحلل مواقف الأنصار في سقيفة بني ساعدة، لا بد وأن تملك الخلفية الصحيحة لهؤلاء القوم، ولهذه الطائفة الفريدة من البشر.



- اقرءوا تاريخ الأنصار، اقرءوا بيعة العقبة الثانية، وما قدموه من تضحيات ثمينة، وجهاد عظيم، والثمن: الجنة.



- اقرءوا قصة الهجرة، وتسابق الأنصار على فقرهم في استضافة المهاجرين، وإكرام المهاجرين، وحب المهاجرين، روى البخاري عن أبي هريرة t قال: قالت الأنصار للنبي r: اقسم بيننا وبين إخواننا النخيل. يريدون أن يقسموا نخيلهم، وأرضهم بينهم، وبين المهاجرين، قال r: "لا".



أَبَى رسول الله r عليهم أن يضحوا هذه التضحية الكبيرة، وأشفق عليهم، لكن هل سكت الأنصار، وقد رفض رسول الله r طلبهم، أبدًا، إنهم لم يتقدموا بطلبهم بقسمة النخيل رياء ولا سمعة، ولم يتقدموا بذلك رهبة وخوفًا من رسول الله r، ولكن فعلوا ذلك؛ لأنهم وجدوا في قلوبهم حبًّا حقيقيًّا للمهاجرين، ووجدوا في أنفسهم إيثارًا على أنفسهم، شعور جارف من الحب في الله لا يقاوم، ذهب الأنصار إلى رسول الله r يعرضون عليه الأمر من زاوية أخرى، وكأن نفوسهم لا تطيق أن يمتلكوا شيئًا لا يمتلكه إخوانهم، قالوا: فتكفونا المئونة، ونشرككم في الثمرة.



يقصدون أن يعمل المهاجرون في الأرض بدلاً من الأنصار، ثم يقسموا الناتج من الثمرة بينهم، أي مشاركة برأس المال والمجهود، وهم لا يحتاجون من يساعدهم، ولكنه نوع من المساعدة، دون إراقة ماء وجه المهاجرين، فهذا عمل، وهذا أجره، قال المهاجرون: سمعنا وأطعنا.



فسعد الفريقان بذلك، مشاعر الأنصار مشاعر قريبة من الملائكة، ليس في حدث أو حدثين، أو يوم أو يومين، بل هذا دينهم طيلة حياتهم، جبلوا على الإيثار منذ آمنوا.


الأنصار بعد حنين :

حدث ما هو أشد من ذلك، وضربوا مثلاً أروع من هذه الأمثلة، وذلك في أعقاب غزوة حنين في سنة 8 من الهجرة، أي قبل حوالي سنتين ونصف من وفاة رسول الله r وقصة بني ساعدة، روى ابن إسحاق مفصلاً، والبخاري مختصرًا عن أبي سعيد الخدري قال: لما أعطى رسول الله r ما أعطى من تلك العطايا في قريش، وفي قبائل العرب، ولم يكن في الأنصار منها شيء، وجد هذا الحي من الأنصار في أنفسهم حتى كثرت فيهم القالة, أي أن الغنائم كثرت جدًّا، فأعطى رسول الله r منها للعديد من قبائل العرب، لكنه لم يعط الأنصار، فغضبوا لذلك, حتى قال قائلهم: لقي والله رسول الله r قومه.



والأمر خطير، غزوة حنين كانت من الغزوات العنيفة جدًّا في تاريخ المسلمين، ومن المعروف أن المسلمين في بادئ المعركة فروا، وذلك عندما اعتمدوا على أعدادهم وقوتهم، ولم يثبت مع رسول الله r إلا أفراد معدودون، هنا صاح رسول الله r: "يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ، يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ".



فلبوا جميعًا، ودارت موقعة شرسة للغاية، ثم كتب الله U نصره لرسول الله r، وللمؤمنين، وحاز المسلمون غنائم لا تحصى من السبي، والإبل، والأغنام، والذهب، والفضة، والسلاح، وغير ذلك، وبدأ يوزع رسول الله r الغنائم على القوم، ماذا فعل r في الغنائم؟



لقد وجد رسول الله r أن أعدادًا كبيرة من زعماء قريش، وأهل مكة قد دخلوا الإسلام إما رهبة من السيف، وإما رغبة في المال، وهؤلاء من ورائهم أقوام وأقوام، إن لم يعطهم فقد يرتدوا وينقلبوا على أعقابهم، وليست الخسارة فيهم وحدهم، ولكن فيمن وراءهم من الناس، وشوكة الإسلام ما زالت ضعيفة، ولم تتمكن في الجزيرة بعد، فأراد الرسول r أن يتألفهم، ويحتويهم في هذا الدين، فأعطاهم عطاءً كريمًا سخيًّا، أعطى وأعطى، ثم بعد ذلك لم يبق شيء في يده للأنصار، والأنصار هم الذين ثبتوا مع رسول الله r، وهم الذين قاتلوا ودافعوا، نعم، لم يفعلوا ذلك لأجل المال، ولا الغنائم، لكن لا بد وأن يتساءل الإنسان، لماذا هذا التباين في العطاء؟



خاف الأنصار أن يكون رسول الله r قد وجد أنه من المناسب الآن أن ينتقل من المدينة إلى مكة، فأخذ يعطي قومه، حتى يتألفهم، ومن ثَم يترك المدينة، وإذا ترك رسول الله r المدينة فهذا أمر شديد، فبالإضافة إلى كون هذا أمرًا يحزنهم لفراقه r، ففيه خطورة شديدة عليهم؛ لأنهم سيتركون للعرب ينتقمون منهم؛ لنصرتهم لرسول الله r، كما أنهم خشوا أن يكون ذلك استقلالاً بشأنهم، وتهميشًا لدورهم، ولا يستنكر أيضًا أن يكون لهم رغبة في المال الحلال الذي حصد أمام أعينهم، وخـاصة أنهم شاركوا في جمعه، والوصول إليه، فاستثناؤهم منه أمر قد يوغر الصدر، هنا تحرك زعيم الأنصار الصحابي الجليل سعد بن عبادة الخزرجي t في سرعة، وحكمة ليبث شكوى الأنصار لرسول الله r، وذلك ليحتوي الموقف؛ كي لا تتفاقم الأزمة، وحتى لا تبقى هناك نار تحت الرماد، دخل على رسول الله r ثم قال: يا رسول الله، إن هذا الحي من الأنصار، قد وجدوا عليك في أنفسهم لما صنعت في هذا الفيء الذي أصبت، قسمت في قومك، وأعطيت عطايا عظامًا في قبائل العرب، ولم يك في هذا الحي من الأنصار منها شيء.



صراحة رائعة، ووضوح جميل من سعد بن عبادة t، وبذلك يمكن للفتن أن تقتل في مهدها. قال رسول الله r: "فَأَيْنَ أَنْتَ مِنْ ذَلِكَ يَا سَعْدُ؟", قال في صراحة أكثر: يا رسول الله، ما أنا إلا من قومي. يقصد أنه أيضًا يجد في نفسه، قال الرسول الحكيم محمد r: "فَاجْمَعْ لِي قَوْمَكَ فِي هَذِهِ الْحَظِيرَةِ".



فخرج سعد، فجمع الأنصار في تلك الحظيرة، فجاء رجال من المهاجرين، فتركهم، فدخلوا، وجاء آخرون فردهم.



ويبدو أن رسول الله r لا يريد للفتنة أن تنتشر في أقوام آخرين، ولا يريد أن يترك مجال للقيل، والقال، فأراد أن يحصر الكلام في القوم الذين يحتاجونه.



فلما اجتمع الأنصار جاء له سعد بن عبادة t فقال له: لقد اجتمع لك هذا الحي من الأنصار. فأتاهم رسول الله r، فحمد الله، وأثنى عليه ثم قال: "يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ، مَا قَالَةٌ بَلَغَتْنِي عَنْكُمْ، وَجِدَةٌ وَجَدْتُمُوهَا عَلَيَّ فِي أَنْفُسِكُمْ؟ أَلَمْ آتِكُمْ ضُلاَّلاً، فَهَدَاكُمُ اللَّهُ، وَعَالَةٌ فَأَغْنَاكُمُ اللَّهُ، وَأَعْدَاءٌ فَأَلَّفَ اللَّهُ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ. رد الأنصار في أدب جم: الله ورسوله أَمَنّ، وأفضل.



رسول الله r يذكرهم بماضيهم منذ عشر سنوات فقط، كيف كانوا في تيه الكفر والضلال، والفرقة، والفقر؟ ثم كيف آمنوا واهتدوا وتوحدوا، واغتنوا بالإسلام؟



فكما رفعهم الله بالإسلام، ووجدوا حلاوته، فرسول الله r يريد أن يرفع أقوامًا آخرين لحلاوة الإيمان، ثم قال r: "أَلا تُجِيبُونِي يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ؟", قال الأنصار في تواضع عجيب: بماذا نجيبك يا رسول الله؟ لله ورسوله المن والفضل.



لم يذكر الأنصار أفضالهم على الدعوة، لم يذكروا أنهم وإن كانوا آمنوا، واهتدوا، واغتنوا؛ فذلك لأنهم قدموا الكثير والكثير، قدموا أرواحهم وديارهم وأرضهم، قدموا الرأي والمشورة، وقدموا السمع والطاعة، وقدموا رسول الله r على سائر ما يحبون، أما هؤلاء القرشيون الذين امتلأت جيوبهم الآن، فلم يقدموا إلا كفرًا وجحودًا وحربًا لرسول الله r طيلة ثماني سنوات في المدينة، وقبلها في مكة، لم يذكر الأنصار كل ذلك؛ لأنهم يعلمون أن نعمة الهداية التي حصلوها بنصرة هذا الدين لا تعدلها دنيا، ولا غنيمة، فاكتفوا بالقول الرائع: لله ورسوله المن والفضل.



لكن رسول الله r رجل يعلم كيف يزن الأمور، ويعرف للرجال قدرهم، وفضلهم ويقوّم الأشياء، فيحسن التقويم r، قال: "أَمَا وَاللَّهِ لَوْ شِئْتُمْ لَقُلْتُمْ، فَلَصَدَقْتُمْ وَلَصُدِّقْتُمْ: أَتَيْتَنَا مُكَذَّبًا فَصَدَّقْنَاكَ، وَمَخْذُولاً فَنَصَرْنَاكَ، وَطَرِيدًا فَآوَيْنَاكَ، وَعَائِلاً فَآسَيْنَاكَ".



لم يقل الأنصار ذلك مع كونه حقيقة، منعهم أدبهم، وفضلهم، وإيثارهم، وتقديرهم لرسول الله r. ثم بدأ رسول الله r يخاطب قلوب الأنصار في مقالة رقيقة حانية، قال: "أَوَجَدْتُمْ يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ فِي أَنْفُسِكُمْ فِي لُعَاعَةٍ مِنَ الدُّنْيَا (لعاعة نبات صغير رقيق أي أن كل ما أعطيه لهم لا يساوي شيئًا) تَأَلَّفْتُ بِهَا قَوْمًا لِيُسْلِمُوا، وَوَكَلْتُكُمْ إِلَى إِسْلامِكُمْ؟ أَلا تَرْضَوْنَ يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالشَّاةِ، وَالْبَعِيرِ، وَتَرْجِعُوا بِرَسُولِ اللَّهِ r إِلَى رِحَالِكُمْ؟ فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْلا الْهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَءًا مِنَ الأَنْصَارِ، وَلَوْ سَلَكَ النَّاسُ شِعْبًا، وَسَلَكَتِ الأَنْصَارُ شِعْبًا لَسَلَكْتُ شِعْبَ الأَنْصَارِ، اللَّهُمَّ ارْحَمِ الأَنْصَارَ، وَأَبْنَاءَ الأَنْصَارِ، وَأَبْنَاءَ أَبْنَاءِ الأَنْصَارِ".



فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم، وقالوا: رضينا برسول الله r قِسْمًا وحظًّا. ثم انصرف رسول الله r، وتفرقوا.



بهذه الكلمات القليلات، وبهذه المخاطبة لقلوب الأنصار النقية، انتهت الفتنة في دقائق معدودة، ها هم الأنصار ينصرفون باكين، بهذه الكلمات نفوسهم راضية، وأفئدتهم مطمئنة، وفي لحظات وجدوا أن مائة بعير، أو مائتين من البعير، أو ثلاثمائة من البعير في يد رجل من رجال قريش أمر لا يساوي شيئًا، هكذا في منتهى البساطة تركوا دنيا واسعة عريضة؛ استجابة لكلمات معدودات طاهرات من فم رسول الله r..



أين حظ نفوسهم؟



أين الدنيا في قلوبهم؟



أين الأثرة أو حب الذات؟



لا شيء



{وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} [الحشر: 9].



هؤلاء هم الأنصار الذين اجتمعوا في سقيفة بني ساعدة؛ لاختيار خليفة لرسول الله r، ولا بد أن ندرس قصة سقيفة بن ساعدة في ضوء هذه الخلفية وهذه الحقائق.



نعود إلى السؤالين الذين طرحناهما بخصوص ذهاب الأنصار لاختيار خليفة من بينهم:



السؤال الأول:

كيف أسرعوا إلى ذلك، ولم ينظروا إلى مصيبة وفاة رسول الله r؟



يقول المستشرقون: إنهم لم يحزنوا حزنًا كافيًا؛ ولذلك ألهتهم الدنيا عن المصاب الفادح.



وللرد على هذه الشبهة نقول:

أولاً: المستشرقون لا يدركون هذه الخلفية التي ذكرناها عن طبيعة الأنصار، أو لعلهم يدركونها، ويتجاهلونها عن قصد وعمد، رسول الله r نَزَّههم عن طلب الدنيا، بل نزههم عن ذلك ربهم، بقرآن باق إلى يوم القيامة، فإذا تغير منهم رجل، أو رجلان فمن المستحيل أن يتغيروا جميعًا، ويجتمعوا على حب الدنيا.



ثانيًا: المستشرقون لا يفقهون معنى الصبر الجميل {فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلاً} [المعارج: 5].



الصبر الذي لا شكوى فيه، الصبر عند الصدمة الأولى..



روى البخاري ومسلم عن أنس t قال: مر النبي r بامرأة تبكي عند قبر فقال: "اتَّقِ اللَّهَ وَاصْبِرِي". فقالت: إليك عني، فإنك لم تصب بمصيبتي. ولم تعرفه، فقيل لها: إنه النبي r. فأتت باب النبي r، فلم تجد عنده بوابين، فقالت: لم أعرفك. فقال: "إِنَّمَا الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الأُولَى".



لقد كان صبر الأنصار y صبرًا جميلاً، صبرًا عند الصدمة الأولى، وكما قال ربنا: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزُّمر: 10].



هذا ما يفهم في ضوء سيرتهم y وأرضاهم.



ثالثًا: هل يمنع هذا الصبر من كون قلوبهم تنفطر حزنًا على رسول الله r؟



هل هناك تعارض بين الحزن وبين العمل الصالح؟



أبدًا، المسلم الإيجابي مهما حزن، فإن ذلك لا يقعده عن العمل الواجب، الحزن الذي يقعد الناس عن العمل حزن مرضي غير مرغوب فيه، وإذا فكرنا في الموقف قليلاً، ترى لو انتظر الأنصار يومًا أو يومين، أو أسبوعًا أو أسبوعين، حتى تهدأ عواطف الحزن، وتعود الحياة إلى طبيعتها، ماذا ستكون النتيجة؟



ماذا لو هجم الفرس أو الروم على بلاد المسلمين؟



من يأخذ قرار الحرب من عدمه؟



من يجهز الجيوش ويعد العدة ويستنفر الناس؟



ماذا يحدث لو هجم المرتدون على المدينة؟



وقبائل عبس وذبيان على بعد أميال من المدينة، وإسلامهم حديث، وردتهم متوقعة، وماذا يحدث لو هجم مسليمة الكذاب بجحافله المرتدة على المدينة؟ من يأخذ قرار الحرب ضدهم؟



ماذا لو نقض اليهود عهدهم؟



أيحاربون أم يوادعون؟



أتكون لهم شروط جديدة ويكون لهم عهد جديد؟



ثم ماذا يحدث لو أخرج المنافقون في المدينة رجلاً منهم وبايعوه على الخلافة، وبايعته قبيلته وقبائل أخرى؟



ماذا يكون رد فعل الصحابة؟



أينكرون بيعته ويحاربون وتحدث الفتنة العظمى والبلية الكبرى؟



أم يتركون منافقًا يترأسهم؟



ماذا لو اختارت كل قبيلة من القبائل المختلفة، التي تكون دولة الإسلام الآن زعيمًا لها من أبنائها وتفرق المسلمون أحزابًا وشيعًا؟



من يجمع ومن يوحد؟



بالتفكير السليم والمنطقي والموضوعي، نجد أن إسراع الأنصار إلى اختيار الخليفة برغم المصيبة الكبيرة لوفاة الرسول r، هو فضيلة تحسب للأنصار، وليس نقصًا أو عيبًا، لقد وصلوا في إيجابيتهم إلى درجة من الصعب أن تتكرر في غيرهم من الأجيال.


الأنصار يختارون الخليفة منهم :

لكن السؤال الأصعب، والذي يحتار فيه كثير من المسلمين فضلاً عن غير المسلمين هو: لماذا أسرع الأنصار لاختيار الخليفة من بينهم، وليس من المهاجرين؟



أولاً: حتى نفهم موقف الأنصار، لا بد أن نسمي الأشياء بمصطلحات العصر الحديثة، حتى ندرك أبعاد الموقف بأكمله، الأنصار في مصطلح العصر الحديث هم أهل البلد الأصليون، كانت المدينة، وكأنها دولة مستقلة، يعيش فيها الأوس والخزرج، وذلك قبل قدوم الرسول r، والمهاجرين إليها، ثم اضطهد المهاجرون في بلدهم مكة، دولة مستقلة أخرى بجوار المدينة المنورة، وضُيق على المهاجرين الخناق، فاضطروا إلى ترك البلد، واللجوء إلى المدينة المنورة، أي أن التعريف الحديث للمهاجرين هو مجموعة من اللاجئين السياسيين في المدينة المنورة، وكدولة كريمة سخية عادلة استقبلت المدينة اللاجئين، أو المهاجرين خير استقبال، وأكرمتهم، وأعطت لهم، ومنحتهم كل حقوق المواطن الأصلي في البلد، ومرت الأيام ولم تفرض أبدًا عليهم قيودًا تعوق من حياتهم، بل على العكس كثيرًا ما آثرتهم على أهل البلد الأصليين، ثم مرت أيام أخرى، ومات قائد المدينة المنورة وزعيمها النبي محمد r، وحان وقت تولية زعيم جديد على المدينة، أمن المنطق البسيط أن يكون زعيم الدولة من أهلها الأصليين، أم من اللاجئين إليها؟



أمن المنطق البسيط أن يكون زعيم الدولة من الذين قَدّموا لأجل من قَدِم إليهم أم يُقَدّم الذي جاء طريدًا من بلده فاستقبل في بلد آخر؟



لو هاجر مجموعة من الفلسطينيين مثلاً إلى أمريكا، أو إنجلترا، أو حتى إلى بلد إسلامي مجاور، أيجوز في عرف هذه البلاد أنه إذا مات رئيسها أن يُختار الرئيس الجديد من بين اللاجئين السياسيين إلى هذه البلد؟

هذا في عرف كل من فكر في القضية تفكيرًا عقلانيًّا بحتًا لا يصح، ما لم يغيره قانون معين موضوع قبل ذلك، وليس هناك -فيما أعلم- بلد في العالم وضع مثل هذا القانون الذي يجيز للاجئين الصعود إلى كرسي الحكم في البلد المضيف.



هذا ما جال في ذهن الأنصار عقب وفاة الرسول r، هم أصحاب البلد، وأكثريتها، وملاكها، أرض آبائهم وأجدادهم، فلماذا يوضع على الكرسي من هو من خارج البلد؟



إذن هذه نقطة.



ثانيًا: أليس أهل المدينة أدرى بشعابها ودروبها وإدارتها، واضح أن المدينة هي دار الإسلام الرئيسية، ومكة، والطائف، وغيرها ما هي إلا مدن تابعة، أليس من المنطقي الذي يخطر على بال الأنصار أنه من المصلحة أن يقود هذه الدولة من هو أعلم بوضعها وبسكانها وبالقبائل المحيطة بها، وبتاريخها، وجذورها، أليس من باب المصلحة أن يكون قائد دولة المدينة من أهل المدينة؟



هذا ولا شك خطر على بال الأنصار؛ فتجمعوا لاختيار الخليفة من بينهم.



ثالثًا: أكان من الممكن للمهاجرين أن يقيموا دولة بغير الأنصار؟ المهاجرون قضوا ثلاث عشرة سنة كاملة في مكة، ولم يفلحوا هناك في تحويلها لبلد إسلامي، فكان لا بد من الهجرة لحين الوصول إلى القوة الكافية للعودة مرة أخرى إلى مكة، سعى رسول الله r إلى بلاد شتى لكي يئوه، وينصروه، فإن قريشًا قد ظاهرت على أمر الله، ذهب الرسول الكريم r إلى الطائف، فأبوا عليه وطردوه، ورجموه بالحجارة، خاطب معظم قبائل العرب في مواسم الحج، فردوه جميعًا، خاطب بني حنيفة، وبني كندة، وبني شيبان، وبني عامر بن لؤي، وبني كلب، وغيرهم، وغيرهم..



فردوه جميعًا إلا طائفة صغيرة من الخزرج، ثم عادوا إلى قومهم وجاءوا بغيرهم، ثم بعدها دخلوا في الدين أفواجًا، وعرضوا استقبال رسول الله r، والمهاجرين في بلادهم، وبايعوا رسول الله r على بذل النفس، والمال، والجهد، والوقت، والرأي، وكل شيء، وهاجر فعلاً رسول الله r، والمسلمون من أهل مكة إلى البلد الجديد المدينة، فقامت دولة الإسلام، ولا شك أنه لو لم يكن الأنصار ما قامت الدولة في ذلك الوقت، إلا عندما يظهر فريق آخر يقبل ما قبل به الأنصار y، لذلك كان من الطبيعي للأنصار أن يشعروا أنه من المنطقي أن يكون الرئيس الجديد من بينهم.

رابعًا: (نقطة هامة جدًّا) الأنصار يشعرون أن المهاجرين سيعودون إلى بلدهم الأصلي مكة بعد وفاة رسول r، مكة البلد الحرام، مكة التي تركوا فيها ديارهم، وأرضهم، وأموالهم التي صادرها المشركون، الآن أسلم المشركون، ومن حقهم العودة إلى بلادهم؛ لأخذ ما صودر منهم هناك، ومن حقهم أن يعيشوا في البلد الحرام حيث الصلاة بمائة ألف صلاة، ومن حقهم أن يعودوا للذكريات الأولى، والعائلات الأصلية في مكة وما حولها، والأنصار شكوا في هذا الأمر من قبل، في غزوة حنين كما ذكرنا منذ قليل فإنهم قالوا: لقي رسول الله r والله قومه.



فكانوا يعتقدون أن رسول الله r سينتقل إلى مكة بعد فتحها، وإن كان رسول الله r لم يفعل، فما الذي يمنع المهاجرون أن يرجعوا إلى بلدهم وقد آمنت؟



فإذا كان رجوع المهاجرين وشيكًا، أليس من المنطقي لاستقرار الدولة الإسلامية أن يكون قائدها من أهل العاصمة بعد أن تخلو من مهاجريها، فإن قيل إنه في هذه الحالة قد تنتقل العاصمة إلى مكة، فإنه يرد على ذلك بأنه ليس من الحكمة أن تنقل العاصمة إلى هذا البلد المتقلب، أهل مكة دخلوا الإسلام منذ أقل من 3 أعوام فقط رغمًا عن أنوفهم، صرح بذلك من صرح وأخفى ذلك من أخفى، وهم حديثو عهد بجاهلية وشرك، وليس لهم فقه وعلم أهل المدينة، وردتهم عن الدين الجديد واردة، بل فعلاً بعد وفاة رسول الله r كانوا على شفا حفرة لولا أن ثبتهم على الإسلام بسهيل بن عمرو t وأرضاه، إذن ليس من الحكمة السياسية أن تنتقل الزعامة إلى مكة، فإذا كانت ستبقى في المدينة، والمدينة سيتركها المهاجرون فمن سيحكم؟



سؤال لا بد أن الأنصار فكروا فيه، والإجابة بسيطة وسهلة: لا بد أن يكون من الأنصار.



خامسًا: الأنصار يشعرون أن العرب ستستهدفهم بالقتال بعد وفاة الرسول r، فالحقد يملأ قلوب العرب على الأنصار؛ لأنهم هم الذين نصروا محمدًا r، وهم الذين قاتلوا هنا وهناك في بقاع مختلفة من الجزيرة، وليس لهم الشرف الذي كان في قريش، وحتى قريش ذاتها ستحاربهم بعد ذلك، فإن لم يكن لهم قوة الحكم والسلطان فقد يُسْتأصلوا إذا تحزبت ضدهم قبائل العرب، وسيظهر هذا الإحساس في كلامهم كما سنرى في سقيفة بني ساعدة.



لهذه الأسباب مجتمعة، ومن المحتمل لغيرها مما لا نعلمه، اعتقد الأنصار أنه من المنطقي أن يكون الخليفة من بينهم، وليس من المهاجرين، ليس تقليلاً لشأن المهاجرين في نظرهم، ولا إهمالاً لهم، ولكن لاعتقادهم أن هذا حق لا ينازعهم فيه أحد.



ومع كل ما سبق، فلعله كان من الألطف أن يخبروا إخوانهم المهاجرين بما يعتزمون فعله، وإطلاعهم على مسببات اختيار الخليفة من بينهم، وذلك حسمًا لأي شك أو حزن يدخل في قلوب المهاجرين، وإن كان الأنصار أيضًا يعذرون بأمور:



أولاً: لعلهم ظنوا أن المهاجرين لن يفكروا أصلاً في الخلافة؛ لكونها في اعتقادهم من حقهم الكامل.



ثانيًا: لعلهم أرادوا غلق باب الفتنة، ومنع الجدال بالحسم في هذا الأمر.



ثالثًا: لعلهم رأوا أن المهاجرين مشغولون بتغسيل وتكفين ودفن رسول الله r، ولم يريدوا أن يشغلوهم بهذا الأمر الذي لهم كما يعتقدون.



المهم أن الأنصار ذهبوا بالفعل أوسهم وخزرجهم إلى سقيفة بني ساعدة لتجري عملية انتخاب الخليفة، وامتلأت السقيفة بوجوه الأنصار من القبليتين الكبيرتين.


أين المهاجرون من هذه الأحداث ؟

فعلاً كان المهاجرون منشغلين بالمصاب الفادح، في بيت رسول الله r وحوله، وكانت أمامهم قضايا الغسل، والتكفين، ثم الدفن، وكانوا مختلفين في قضية الدفن..



أين يدفن r؟



أفي البقيع؟



أم مع شهداء أحد؟



أم في مكة بلده؟



أم في مكان خاص به؟



حتى جاء أبو بكر الصديق t، وأخبرهم بأنه يجب أن يدفن حيث مات كما أخبره بذلك رسول الله r من قبل.



لكن هل كان اجتماع الأنصار في سقيفة بني ساعدة بهذا العدد الكبير يخفى على المهاجرين؟



لا بالطبع، رأى أحد الرجال وهو من المهاجرين هذا الجمع من الأنصار في السقيفة، فأسرع إلى بيت رسول الله r، وكان بداخله آنذاك أبو بكر، وعمر، وغيرهم y أجمعين، نادى الرجل على عمر بن الخطاب t وقال: اخرج إليَّ يا ابن الخطاب. قال عمر t: إليك عني فإنا عنك مشاغيل. لكن الرجل أصر على عمر، فخرج له، فقال الرجل: إنه قد حدث أمر لا بد منك فيه، إن الأنصار قد اجتمعوا في سقيفة بني ساعدة، فأدركوهم قبل أن يحدثوا أمرًا.



هنا أدرك عمر بن الخطاب t خطورة الموقف، فأسرع إلى الصديق أبي بكر، وأخبره بالأمر وقال له: انطلق بنا إلى إخواننا من الأنصار. فانطلق هو وأبو بكر رضي الله عنهما.



وهنا تتضح حكمة هذين الرجلين فعلاً، فلولا الإسراع الآن لتأزم الموقف جدًّا، فلو أحدث الأنصار بيعة لا يرضى عنها المهاجرون، فإما أن يبايعوا على ما لا يرضون، وإما أن يرفضوا البيعة، وفي هذا فساد، فلا بد أن يسرعوا قبل أن يكتمل الأمر، ويتفرق الأنصار من سقيفة بني ساعدة، أسرع الصديق وعمر رضي الله عنهما إلى السقيفة..



وفي الطريق لقيا رجلين صالحيْن من الأنصار القدامى، ممن شهدوا بيعة العقبة الثانية، وشهدوا كل معارك رسول الله r عوين بن ساعدة t، ومعن بن عدي t، فلما رأيا أن الصديق وعمر ذاهبان إلى السقيفة نصحوهما بألا يقربا السقيفة، وليقضوا أمرهم -أي المهاجرين- فيما بينهم، ويبدو أنهما خشيا من حدوث فتنة بين المهاجرين والأنصار فأرادا أن يصرفاهما، لكن الصديق وعمر رضي الله عنهما أصرا على الذهاب إلى السقيفة، ثم في الطريق إلى هناك لقيا أبا عبيدة بن الجراح t، وهو رجل من أعاظم المهاجرين y أجمعين، فأخذاه معهما إلى سقيفة بني ساعدة، ومن الواضح أن المهاجرين لا يضمرون في أنفسهم شرًّا، ولا يعدون تدبيرًا ولا مكيدة، كما اتهمهم كثير من المستشرقين والشيعة، وإلا كيف يذهبون ثلاثة فقط، ولا يجمعون المهاجرين لأجل هذا الحدث الهام؟



وفي هذه الأثناء، وقبل وصول المهاجرين إلى السقيفة، كان الأنصار قد خطوا خطوات هامة في عملية اختيار الخليفة، لقد اجتمع الأنصار أوسهم وخزرجهم على اختيار الصحابي الجليل سعد بن عبادة t زعيمًا للمسلمين، وخليفة لرسول الله r، سعد بن عبادة هو زعيم الخزرج، ومع ذلك أيده كل الأوس، وهذه ولا شك فضيلة إيمانية عالية، فلو نذكر منذ سنوات معدودات، وقبل قدوم الرسول r إلى المدينة كانت الحروب على أشدها بين الأوس والخزرج وآخرها يوم بعاث، والذي حدثت فيه مقتلة عظيمة بين الطرفين، أما الآن فقد تغيرت نفوس الأنصار، وتركت حظ نفسها، وما عادت تفكر إلا في مصلحة هذا الدين، ولم يجد الأوس حرجًا في أن يقدموا زعيم الخزرج للخلافة، ووقفوا جميعًا وراءه ولم يطرحوا اسمًا أوسيًّا بديلاً، بل قبلوا به دونما أدنى جدل، إذن الرجل المرشح الأول للخلافة هو: سعد بن عبادة، في نظر الأنصار، وسعد بن عبادة t أهل لكل خير، ولو كان الخليفة من الأنصار، فسيكون اختيار سعد بن عبادة اختيارًا موفقًا لا ريب.



من هو سعد بن عبادة المرشح الأول للخلافة من قِبَل الأنصار؟



للأسف إننا لا نعرف سعد بن عبادة، أو نعرفه بصورة مشوهة، هو سيد الخزرج، وأحد النقباء يوم العقبة الثانية، وكان شريفًا في قومه، وكان يجير للمطعم بن عدي قوافله المارة بالمدينة قبل الإسلام، فهو عريق في الشرف t، وكان ممن شهد المشاهد كلها مع رسول الله r، وله مواقف مشهورة في الغزوات، ولا سيما في الخندق، حيث رفض إعطاء غطفان ثمار المدينة، ونزل رسول الله r على رأيه في ذلك، كان رسول الله r يُجله، ويقدره، ويكثر من زيارته، وذلك لمكانته بين الأنصار t..



يروي قيس بن سعد بن عبادة رضي الله عنهما أن رسول الله r زارهم في بيتهم فقال: "السَّلامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ". قال قيس: فرد أبي ردًّا خفيًّا، فقلت لأبي: ألا تأذن لرسول الله؟ فقال: اتركه حتى يكثر علينا من السلام. فقال r: "السَّلامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ". وهنا ظن الرسول r أنه لا أحد بالبيت، فرجع، فتبعه سعد فقال: يا رسول الله، إني كنت أسمع تسليمك، وأرد عليك ردًّا خفيًّا؛ لتكثر علينا من السلام, فانصرف النبي r معه إلى بيته، وأمر له سعد بغسل، فاغتسل، ثم ناوله ملحفة مصبوغة بزعفران، فاشتمل بها، ثم رفع يديه r، وهو يقول: "اللَّهُمَّ اجْعَلْ صَلَوَاتَكَ وَرَحْمَتَكَ عَلَى آلِ سَعْدٍ".

كان سعد t جوادًا واسع الكرم والسخاء، كان الرجل من الأنصار ينطلق بالرجل من فقراء الصُّفة يطعمه، وينطلق الرجل من الأنصار بالرجلين، وينطلق الرجل من الأنصار بالخمسة رجال، أما سعد بن عبادة، فكان ينطلق بالثمانين منهم t وأرضاه.



وروى مسلم عن أبي أسيد الأنصاري t أنه يشهد أن رسول الله r قال: "خَيْرُ دُورِ الأَنْصَارِ بَنُو النَّجَّارِ، ثُمَّ بَنُو عَبِدْ الأَشْهَلِ، ثُمَّ بَنُو الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ، ثُمَّ بَنُو سَاعِدَةَ، وَفِي كُلِّ دُورِ الأَنْصَارِ خَيْرٌ".



ويبدو أن أحد الحضور قد شكك في كلام أبي أسيد t وهو من بني ساعدة فقال: أَتَّهِمُ أَنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ r؟ لَوْ كُنْتُ كَاذِبًا لَبَدَأْتُ بِقَوْمِي بَنِي سَاعِدَةَ. وبلغ ذلك سعد بن عبادة فوجد في نفسه حزن، وقال: خُلِّفْنَا فكنا آخر الأربع -سعد بن عبادة من بني ساعدة- أسرجوا لي حماري، آتي رسول الله r، فكلمه ابن أخيه سهل فقال له: أتذهب لترد على رسول الله r، ورسول الله r أعلم؟ أوليس حسبك أن تكون رابع أربع؟ فرجع وقال: الله ورسوله أعلم. وأمر بحماره فحل عنه.



هكذا ببساطة رضي أن يكون رابع القبائل في الخيرية، وممن سبقه بنو عبد الأشهل، وهم من الأوس، هذا مع كون سعد بن عبادة سيد الخزرج، لكنه كان وقافًا على كتاب الله، وعلى كلام رسوله r، فاكتفى بقوله: الله ورسوله أعلم.



نعود إلى سقيفة بني ساعدة، إذن اختار الأنصار سعد بن عبادة t، وكان مريضًا t، ويجلس وهو مزمل بثوبه، ولا يكاد يسمع صوته، فأراد أن يتكلم بعد اختياره، فلم يقدر على إسماع القوم جميعًا، فكان يبلغ ابنه بالكلام، ويتحدث ابنه إلى الناس، فقال سعد بن عبادة t بعد أن حمد الله وأثنى عليه بما هو أهله: يا معشر الأنصار.



ونلاحظ أنه لم يدخل أبو بكر وعمر وأبو عبيدة بعد، فليس هناك أحد من المهاجرين.



يقول: لكم سابقة في الدين، وفضيلة في الإسلام، ليست لقبيلة من العرب.



ونلاحظ هنا أنه يرفع شأن الأنصار فوق كل قبائل العرب بما فيها قبائل مكة وفيها قريش، لماذا؟ هو يفسر في خطبته فيقول: إن محمدًا r لبث بضع عشر سنة في قومه يدعوهم إلى عبادة الرحمن وخلع الأوثان، فما آمن به من قومه إلا رجال قليل، ما كانوا يقدرون على أن يمنعوا رسول الله r، ولا أن يعزوا دينه، ولا أن يدفعوا عن أنفسهم ضيمًا عموا به، حتى إذا أراد الله بكم الفضيلة، ساق إليكم الكرامة.



وهنا ما نسي أن ينسب سعد بن عبادة t الفضل لله U. يقول: وخصكم بالنعمة، فرزقكم الله الإيمان به، وبرسوله، والمنع له، ولأصحابه والإعزاز له، ولدينه، والجهاد لأعدائه، فكنتم أشد الناس على عدوه منكم، وأثقلهم على عدوه من غيركم.



وطبعًا كلام سعد بن عبادة t هنا كلام حقيقي وصحيح، فالمهاجرون في بدر مثلاً كانوا 82 أو83 بينما كان الأنصار231 رجلاً.



ثم يكمل سعد بن عبادة خطبته فيقول: حتى استقامت العرب لأمر الله طوعًا وكرهًا، وأعطى البعيد المقادة صاغرًا داخرًا. أي أن العرب جميعًا سلمت القيادة للمسلمين بفضل الأنصار.



يقول: حتى أغنى الله U لرسوله بكم الأرض، ودانت له بأسيافكم العرب.



وهنا سعد بن عبادة t، وكأنه يشير إلى اعتقاده الراسخ أن العرب ستستهدف الأنصار بعد وفاة الرسول r، لأن الأنصار هم الذين أرغموا العرب على الاتباع.



ثم يختم سعد بن عبادة t خطبته بكلمة جميلة فقال: ثم توفَّى الله U رسوله r، وهو عنكم راض، وبكم قرير العين.



مع قصر الخطبة في كلماتها إلا أنها كانت تحمل معان عميقة كثيرة، ويمكن القول إجمالاً أن سعد بن عبادة t ذكر مفاخر الأنصار وأفضالهم، وحب الرسول r لهم ووضع الأنصار بالنسبة للعرب.



ذكر كل ذلك لهدفين رئيسيين فيما يبدو لي:

الهدف الأول: هو رفع الحالة المعنوية للأنصار بعد المصاب الفادح بوفاة رسول الله r، ونفي الإحباط واليأس، والدعوة لاستمرار المسيرة كما بدأها، والثبات على أمر هذا الدين.

الهدف الثاني: هو التدليل على أحقية الأنصار في الخلافة، فيما يبدو لهم من حيث إنهم الذين نصروا، وآووا، وقاتلوا العرب، ومكنوا للدين.



وإجمالاً فالخطبة تعبر عن حكمة الصحابي الجليل سعد بن عبادة t ورضي الله عن الأنصار والمهاجرين وسائر الصحابة أجمعين.



بعد انتهاء هذه الخطبة الموجزة دخل الصديق أبو بكر t، ومعه عمر بن الخطاب، وأبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنهما، ورآهم الأنصار، ويبدو أنهم كانوا لا يتوقعون ظهور المهاجرين الآن، فهذا قد يعطل البيعة، نعم، الأنصار استقروا على سعد بن عبادة t، لكنه لم يبايع بعد، والأمر عرضة للنقاش الجديد والجدل، والذين دخلوا من المهاجرين ليسوا رجالاً عاديين، لقد دخل الصديق أبو بكر t الوزير الأول لرسول الله r، وثاني اثنين، والصاحب القريب إلى رسول الله r، ومعه عمر بن الخطاب الوزير الثاني لرسول الله r، والملهم المحدث، الفاروق، ومعه أيضًا أمين هذه الأمة أبو عبيدة الجراح، وإن صح القول فهو في مقام الوزير الثالث لرسول الله r؛ لكثرة استشارة الرسول له، والاعتماد عليه في أمور كثيرة..



وهذا مما دعا السيدة عائشة أن تقول كما جاء في صحيح مسلم عندما سئلت: من كان رسول الله r مستخلفًا لو استخلف؟ قالت: أبو بكر. قيل لها: ثم مَن بعد أبي بكر؟ قالت: عمر. قيل لها: من بعد عمر؟ قالت: أبو عبيدة بن الجراح.



ولقد مات أبو عبيدة t في خلافة عمر t سنة 18 هجرية، ولا شك أنه كان سيدخله في الستة الذين تركهم عمر لينتخبوا من بينهم خليفة، لو كان حيًّا.



إذن الثلاثة الذين دخلوا على الأنصار هم أصحاب الرأي والمشورة من الصحابة، ولا شك أنهم يمثلون الآن رأي المهاجرين، إذن هنا ستحدث مواجهة، الأنصار يريدون سعد بن عبادة t، والمهاجرون لم يفصحوا بعد عن رأيهم، ولكن لعل لهم رأيًا آخر، هنا حدثت لحظة هدوء وترقب، ترى ماذا سيقول المهاجرون؟



أيقرون بخلافة سعد بن عبادة الأنصاري أم يرشحون خليفة غيره؟


ما حدث في سقيفة بني ساعدة :

لنرَ كيف صور عمر بن الخطاب t الموقف، كما جاء في صحيح البخاري ومسلم: يقول عمر: فانطلقنا حتى أتيناهم في سقيفة بني ساعدة، فإذا رجل مزمل بين ظهرانيهم، قلت: من هذا؟ قالوا: سعد بن عبادة.



وواضح أنهم قد وضعوه في مكان ما في صدر المجلس، فلفت نظر عمر بن الخطاب t، ولعله أدرك أنه قد رشح بالفعل للخلافة.



يقول عمر: قلت: ما له؟ قالوا: يوعك -أي مريض- فلما جلسنا قليلاً قام خطيبهم.



حدثت لحظة من الصمت، ثم أدرك الأنصار أن وجود هؤلاء المهاجرين الثلاثة قد يغير من الأمور، ويحدث ما لا يريدونه، فقام خطيب الأنصار يريد أن ينهي المسألة قبل أن يتكلم المهاجرون، وخطيب الأنصار هذا لا نعرف اسمه، لم يُشر إلى اسمه في الروايات الصحيحة، وإن كان ابن حجر العسقلاني يقول في (فتح الباري) أنه من المحتمل أن يكون ثابت بن قيس t، فهو الذي كان يطلق عليه خطيب الأنصار، والله أعلم بحقيقة الأمر، المهم أنه أراد أن يتكلم كلامًا فصلاً، فقال كما في رواية البخاري ومسلم عن عمر بن الخطاب t: تشهد وأثنى على الله بما هو أهله ثم قال:



أما بعد، فنحن أنصار الله، وكتيبة الإسلام، وأنتم معشر المهاجرين رهط. وفي رواية أخرى: رهط منا.



هنا بوادر مشكلة، الخطيب الأنصاري يذكر أن الأنصار هم كتيبة الإسلام وأنصار الله، بينما المهاجرون رهط، أي: عدد قليل. وفي رواية أخرى: رهط منا. أي عدد قليل بالنسبة لنا، وكأنه التقط أن المهاجرين سيريدون الخلافة فيهم، فأسرع يبطل حجة المهاجرين بأنهم أعداد قليلة بالنسبة للأنصار، والأنصاري بالطبع يقصد المهاجرين قبل فتح مكة، والذين يعيشون في المدينة الآن، وإلا فلو اعتبروا أعداد القرشيين في مكة، والذين أسلموا بعد الفتح، فسيكونون أضعاف وأضعاف الأنصار، وبذلك فإن الخطيب الأنصاري ذكر هذا الكلام كتلميح أن الخلافة يجب أن تكون في العدد الأكبر، والذي نصر الإسلام في كل المشاهد، والمواقع بنسبة دائمًا ما تكون أكبر من المهاجرين، هذا كان من باب التلميح، ثم إنه بعد ذلك صرح، قال الخطيب الأنصاري: وقد دفت دافة من قومكم -أي جاءت مجموعة قليلة من المهاجرين- فإذا هم يريدون أن يختزلونا من أصلنا -أي يستثنونا من الخلافة في بلادنا- وأن يحصنونا من الأمر -أي يخرجونا منه- ثم سكت.



لقد صرح الأنصاري الآن بشيء لا بد أن يحدث بعده جدال طويل، فقد قال صراحة إنكم أيها المهاجرون، ويقصد أبا بكر وعمر وأبا عبيدة قد جئتم لتخرجونا من أمر هو يرى أنه حق الأنصار، فكيف يكون هذا؟



ها قد جاء موقف يقول فيه المسلمون: نحن الأنصار، و: نحن المهاجرون.



وهذا أمر خطير، ورسول الله r نهى عن ذلك تمامًا ونهى عن دعوى الجاهلية، والقبلية، ونهى عن فساد ذات البين، ولا بد من الحكمة الشديدة، والحرص البالغ في معالجة الموقف، وهو ما زال في بدايته، ويجب أن نلاحظ أن كل هذا الموقف يحدث نفس اليوم الذي توفي فيه رسول الله r، ولم يدفن بعد.



يقول عمر بن الخطاب t: فلما سكت -أي الخطيب الأنصاري- أردت أن أتكلم، وكنت قد زورت مقالة أعجبتني -أي هيأت وحسنت- أريد أن أقدمها بين يدي أبي بكر، فلما أردت أن أتكلم، قال أبو بكر: على رسلك.



أي على مهلك، يعني أسكته، يريد أن يتكلم هو t، ولعله خشي أن يقول عمر بن الخطاب t كلامًا شديدًا يعقد الموقف.



يقول عمر t: فكرهت أن أغضبه، فتكلم أبو بكر فكان هو أحلم مني وأوقر, وعمر t وكذا كل الصحابة، كانوا يجلون أبا بكر إجلالاً كبيرًا، وكان إذا تكلم t أنصتوا، يقول عمر: فوالله ما ترك من كلمة أعجبتني في تزويري، إلا قال في بديهته مثلها، أو أفضل منها.


كلمة أبي بكر في السقيفة :

ماذا قال أبو بكر الصديق t أحكم الأمة بعد نبيها r؟

لقد قسّم الصديق مقالته إلى ثلاثة أقسام أو ثلاثة مراحل في غاية الحكمة:

أولاً: يقول عمر: فلم يدع الصديق شيئًا أنزل في الأنصار، أو ذكره رسول الله r إلا ذكره, يعني ذكر كل المديح الذي جاء في الأنصار ثم قال: لقد علمتم أن رسول الله r قال: "لَوْ سَلَكَ النَّاسُ وَادِيًا وَسَلَكَ الأَنْصَارُ وَادِيًا، لَسَلَكْتُ وَادِيَ الأَنْصَارِ".



وما ذكرتم فيكم من خير فأنتم أهله، وإنا والله يا معشر الأنصار ما ننكر فضلكم، ولا بلاءكم في الإسلام، ولا حقكم الواجب علينا.



بهذه المقدمة اللطيفة احتوى الصديق t الأنصار، وأشاع جوًّا من السكينة في السقيفة، ووسع في صدر الأنصار، وأعطى لكل ذي قدر قدره، هذا كله دون كذب ولا نفاق، إنما ذكر الحق الذي ذكره الله U ورسوله الكريم محمد r.



ثانيًا: أما وقد سكنت النفوس، فليذكر الحق الذي لا بد منه، قال الصديق t: ولكن العرب لا تعرف هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش، وهم أوسط العرب دارًا وأنسابًا.



والصديق هنا يحاول أن يوضح بهدوء للأنصار أن الحكمة تقتضي أن تكون الخلافة في قريش، لماذا؟



لأن العرب لن تسمع وتطيع إلا لهم، فمنهم النبي r، وهم أوسط العرب نسبًا وأكثر العرب قربًا لقلوب العرب؛ لمكانة مكة الدينية في قلوب الناس، فإذا كان الخليفة من قريش اجتمع العرب عليه مهما اختلفت قبائلهم، وإن كان من غيرهم لم يقبلوا به مهما كان هذا الخليفة رجلاً صالحًا عادلاً تقيًّا، إذن ليست القضية تقليلاً، أو تهميشًا للأنصار، فإنهم فعلاً أهل الفضل، وأنصار الإسلام وليست القضية هي حكم المدينة المنورة فقط، حتى نختار حاكمًا من أهلها عليها، ولكن يجب أن يوسع الأنصار مداركهم؛ ليفقهوا أن هذا الخليفة المنتخب يجب أن يسمع له ويطيع كل العرب، ثم كل الأرض بعد ذلك، وحتى بفرض أن الأنصار اختارت رجلاً هو أتقى وأفضل من رجل المهاجرين، أليس من الحكمة أن يتولى الأصلح الذي يجتمع عليه الناس جميعًا؟



ليس هذا أبدًا من باب القبلية والعنصرية، ولكنه من باب فقه الواقع، والواقع يملي شروطه أن الخليفة يجب أن يكون من قريش، وبالذات في ذلك الزمان، ثم أليس في المهاجرين من يساوي في الفضل أو يفوق سعد بن عبادة t وعن الصحابة أجمعين؟



لا شك أن طائفة المهاجرين مليئة بأصحاب الفضل، والرأي، والحكمة، والتقوى.



إذن هذا طرح جديد يقوم به الصديق t، أن يكون الخليفة من قريش، وهو رأي منطقي ومعقول، وله أبعاده العميقة.



ثالثًا: يكمل الصديق كلمته بالمحور الثالث، فألقى جملة رائعة، قال الصديق: وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين، فبايعوا أيهما شئتم.



فأخذ بيد عمر بن الخطاب وبيد أبي عبيدة بن الجراح، وهو جالس بينهما. فالصديق t يقصد أنه ما طرح فكرة أن يكون الخليفة من قريش طمعًا في الخلافة، ومع كونه أفضل المهاجرين، بل أفضل المسلمين بعد رسول الله r، إلا أنه يقدم أحد الرجلين عمر وأبا عبيدة بن الجراح، وذلك زهدًا في الخلافة، وبعدًا عن الدنيا، والصديق t لا يقول هذا الكلام من باب السياسة، أو الحكمة، أبدًا، ففي ضوء سيرة الصديق t نتبين أنه كان صادقًا تمامًا في عرضه هذا، وأنه ما رغب في إمارة، ولا سعى إليها، فلما بويع الصديق t قام خطيبًا ذات يوم فقال:



"إني وليت هذا الأمر وأنا له كاره، والله لوددت أن بعضكم كفانيه، ألا وإنكم إن كلفتموني أن أعمل فيكم بمثل عمل رسول الله r لم أقم به، كان رسول r عبدًا أكرمه الله بالوحي وعصمه به، ألا إنما أنا بشر، ولست بخير من أحدكم، فراعوني، فإذا رأيتموني استقمت فاتبعوني، وإذا رأيتموني زغت فقوموني".



هذا الكلام يخرج فعلاً من قلب الصديق، وعندما تولى إمارة المسلمين ما ظهر عليه ما يشير إلى رغبته فيها، كان عابدًا زاهدًا مجاهدًا، كان كثير التفكر، كثير السهر، كثير العمل، ولم يستمتع بدنيا، ولا بسلطة، ولا بقيادة، إذن فالصديق كان صادقًا في عرضه مبايعة أحد الرجلين عمر، أو أبي عبيدة بن الجراح، فالصديق كما نعلم قد أخرج حظ نفسه من نفسه، وعلى عظم مكانته كان يقدر عمر، ويقدر أبا عبيدة، ويحفظ لهما مكانتهما، لكن على الجانب الآخر كان الصحابة جميعًا يحفظون للصديق مكانته ووضعه.



لما رشح الصديق عمر وأبا عبيدة للخلافة، ماذا كان رد فعلهما؟ يعلق عمر بن الخطاب على كلام الصديق بترشيحه، فيقول: فلم أكره مما قال غيرها، والله لأن أقدم فتضرب عنقي، لا يكون في ذلك من إثم، أحب إليّ من أن أتأمر على قوم فيهم أبو بكر.



وهكذا كان ابن الخطاب دائمًا يعرف للصديق فضله، ويتمنى صادقًا أن يموت في غير معصية، ولا أن يُقَدّم على الصديق، أيّ مجتمع عظيم هذا الذي يهرب فيه المرشحون للرئاسة بعيدًا عن الرئاسة؟



الآن أصبح هناك رأيان:

- رأي يؤيد مرشحًا من الأنصار، ويقف وراءه معظم رءوس الأنصار في المدينة.



- ورأي يؤيد مرشحًا من قريش ويقف وراءه ثلاثة فقط من المهاجرين. وكل له حجته ومنطقه، وهذا ليس خلافًا بسيطًا عابرًا، بل هو خلاف على ملك ورئاسة وسلطان، فلننظر إلى جيل القدوة كيف يتعامل مع اختلاف وجهات النظر..


رأي الحباب بن المنذر ورد عمر رضي الله عنهما :

قام الحباب بن المنذر t، ولو نتذكر، فالحباب بن المنذر t هو الذي أشار على رسول الله r بموقع المعركة في بدر، بعد أن نزل الرسول r في منزل آخر، فوافقه رسول الله r، ثم أشار عليه ثانية في خيبر بمكان نزل فيه المسلمون كذلك، ولهذا يعرف بين الصحابة بـ (ذي الرأي)، قام الحباب بن المنذر t يعرض رأيًا رأى أنه رأي متوسط بين الرأيين، أي كما يقولون حلاًّ يُرضي جميع الأطراف، قال: أنا جذيلها المحكك، وعذيقها المرجب.



الجذيل: هو عود ينصب للإبل لتحتك به إذا كان بها جرب.



والمحكك أي: كثيرًا ما يحتك به.



والمعنى أنه كثيرًا ما يحتكون به لرأيه ومشورته.



والعذيق: النخلة، تصغير عذق.



المرجب أي: الذي يدعم النخلة إذا ثقل حملها.



والمعنى أنه يُعتمد عليه، ولا نتعجب من أننا لا نعرف معناها، فقد سأل أحد رواة الحديث الإمام مالك عن معناها فقال له: كأنه يقول أنا داهيتها.



وإجمالاً فهو يقصد أنه صاحب الرأي الذي سيأتي بما لا يختلف عليه أحد، فماذا قال؟



قال الحباب: منا أمير، ومنكم أمير.



أي أنه يريد اختيار أميرين، أمير من الأنصار على الأنصار، وأمير من المهاجرين على المهاجرين، أو يختار أميران تكون لهما القيادة على دولة الإسلام سويًّا، وهناك أكثر من ملاحظة على رأي الحباب t:



أولاًً: هذا تنازل سريع من الأنصار على موقفهم من اختيار الخليفة، فمنذ قليل كان الخليفة المختار سعد بن عبادة سيكون خليفة على كامل دولة الإسلام، ثم ها هم الأنصار بكلمات قلائل من الصديق يتنازلون عن نصف الخلافة، فهي محاولة صادقة لتقريب وجهات النظر، والالتقاء في منتصف الطريق.



ثانيًا: أنه بعد أن قال: منا أمير، ومنكم أمير.



أضاف قولاً آخر أخرجه ابن سعد بسند صحيح كما قال ابن حجر العسقلاني في فتح الباري، أضاف الحباب: فإنا والله ما ننفس عليكم هذا الأمر، ولكنا نخاف أن يليها أقوام قتلنا آباءهم وإخوتهم.



يقصد أن الأنصار في الغزوات المتتالية قتلوا عددًا كبيرًا من أهل مكة من القريشيين، وسيترك ذلك ثأرًا في قلوب قريش، فإن تولى القرشيون الخلافة انتقموا من الأنصار، وهذا يضيف عاملاً آخر إلى جوار العوامل التي وضعها الأنصار في حساباتهم عند اجتماعهم لاختيار الخليفة من بينهم، كما ذكرنا من قبل.

يعلق الخطابي رحمه الله على ذلك فيقول: إن العرب لم تكن تعرف السيادة على قوم إلا لمن يكون منهم، فالأنصار يستغربون كعامة العرب، أن يكون عليهم أمير من غيرهم.



وهذا صحيح لمن يعرف أحوال العرب قبل الإسلام، فمهما صغرت القبيلة، فإن رئيسها يكون منها، وقَبِل الجميع برسول الله r؛ لأنه كان نبيًّا، وكانت القبلية معوقًا رئيسيًّا لكثير من الناس في دخول الإسلام، نعم جاء الإسلام وألغى القبيلة، لكن هذه كانت قواعد إدارة البلاد منذ سنوات معدودات، ولا ننسى أن رسول الله r ما مات إلا منذ سويعات قلائل، إذن الملاحظة الثانية:



أن ما جعل الأنصار يقول هذا القول ليس الحقد على المهاجرين، ولكن لخوفهم من نظام جديد قد تكون فيه خطورة على حياتهم جميعًا.



ثالثًا: بصرف النظر عن الخلفيات وراء كلام الحباب t، أين الحكمة أن يتولى الخلافة رجلان؟ فمن المستحيل أن تدار البلد بخليفتين، بل إن هذا أمرًا منهي عنه في الشرع في منتهى الوضوح وفي منتهى الصرامة، روى الإمام مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنه قال: قال رسول الله r: "وَمَنْ بَايَعَ إِمَامًا فَأَعْطَاهُ صَفْقَةَ يَدِهِ، وَثَمَرَةَ قَلْبِهِ، فَلْيُعْطِهِ مَا اسْتَطَاعَ، فَإِنْ جَاءَ آخَرُ يُنَازِعُهُ، فَاضْرِبُوا عُنُقَ الآخَرِ".



هكذا في منتهى الوضوح، ومن ثم فالحباب بن منذر t إما لم يصله هذا الحكم ولا يعرفه، وإما أنه أراد أن ينسحب الأنصار من الخلافة، ولكن بأسلوب متدرج؛ منعًا لإحراج كبيرهم سعد بن عبادة t، لكن هذا لم يكن ليمر دون تعليق من الصحابة فإن كان الحكم قد خفي عن أحدهم، فلا بد أن آخرين قد أدركوا الصواب، قال عمر بن الخطاب t: إنه لا يصلح سيفان في غمد واحد.



فقال خطيب الأنصار، ولعله كما ذكرنا من قبل ثابت بن قيس t: إن رسول الله r كان إذا استعمل رجلاً منكم، قرنه برجل منا، فتبايعوا على ذلك.



أي أن خطيب الأنصار يحاول أن يؤيد رأي الحباب بن المنذر، ولكن بتنازل أكبر، أي أنه يقبل خليفة من المهاجرين مقرونًا معه بمساعد من الأنصار، لكن يبدو أيضًا من كلامه أنه ليست وزارة للخليفة، بل هو أيضًا خليفة، ولكن في درجة لاحقة للخليفة الأول، وهذا أيضًا كما هو واضح ليس بمنطقي.

قام عمر بن الخطاب مرة ثانية وقال: هيهات، لا يجتمع اثنان في قرن، والله لا ترضى العرب أن يؤمروكم، ونبيها من غيركم، ولكن العرب لا تمتنع أن تولي أمرها من كانت النبوة فيهم، ولنا بذلك على من أبى من العرب الحجة الظاهرة، والسلطان المبين.



ثم قال: من ذا ينازعنا سلطان محمد وإمارته، ونحن أولياؤه، وعشيرته، إلا مدل بباطل، أو متجانف لإثم، أو متورط في هلكة.



ونلاحظ هنا أن عمر بن الخطاب بدأ يحتد، ومن المؤكد أن صوته قد ارتفع ولو قليلاً، والكلام الذي قاله يحتمل معانٍ كثيرة، فهو يقول أنه لا أحد من العرب يستطيع أن ينازع عشيرة محمد r الإمارة، والأنصار من العرب، وهي داخلة في الكلمة العامة التي قالها الفاروق عمر t، وإذا أصرت قد تورط نفسها في هلكة كما قال عمر t، هنا تكلم أحد الأنصار لم تذكر الروايات اسمه كما جاء في مسند الإمام أحمد بسند صحيح، ونلاحظ في كلام الأنصاري الأتي تنازلاً جديدًا، قال:



إذن أولاً نختار رجلاً من المهاجرين، وإذا مات اخترنا رجلاً من الأنصار، فإذا مات اخترنا رجلاً من المهاجرين، كذلك أبدًا.



ونلاحظ أنه يقدم بيعة المهاجرين، ثم هو يريد أن يدلل على كلامه، ويؤكد فيقول: فيكون أجدر أن يشفق القرشي إذا زاغ، أن ينقض عليه الأنصاري، وكذلك الأنصاري إذا زاغ أن ينقض عليه القرشي.



وهذا وإن كان ظاهره أنه سيحل الموقف الآن باختيار خليفة من المهاجرين، إلا أنه سيؤجل الفتنة عدة سنوات أو شهور، ولكنها ستحدث حتمًا، فقد يدخل الشيطان بين الفريقين لتبادل السلطة، والأكثر من ذلك أن العرب مستقبلاً بعد موت الخليفة الأول لن ترضى بالخليفة الأنصاري الجديد، ومن ثم، فهذا الرأي أيضًا لا يقبل.



وقف أيضًا عمر بن الخطاب t، وكان شديدًا في الحق، حريصًا على الوضوح، بعيدًا كل البعد عن تمييع الأمور، أو دفن النار تحت الرماد، قال في قوة وحدّة: لا والله، لا يخالفنا أحد إلا قتلناه.



طبعًا هذه الكلمة شديدة، ومن المؤكد أنها أثارت الأنصار في ساعتها، لكن عمر t يريد أن يوضح الأمور على حقيقتها، إن كانت الخلافة فعلاً من حق قريش، فالذي سينازعهم فيها لا بد أن يقتل شرعًا، فإذا كانت العرب جميعًا ستبايع القرشيين، ولن تبايع الأنصار، فالاجتماع على القرشيين واجب، وهنا تكون مطالبة الأنصار بالإمارة مخالفة شرعية، لأنها ستقود إلى الفرقة والفتنة، والفتنة أشد من القتل، لذلك شرع الرسول r قتل الخليفة الآخر، إذا بويع للأول واجتمع الناس عليه، وكان مقيمًا لشرع الله غير مبدل ولا محرف.



ولذلك، سمي الفاروق فاروقًا، لأنه فعلاً في مواقف عدة، بل لعله في كل مواقفه يكره اللون الرمادي الغير واضح، ويحب أن يوضح الأمور على حقيقتها، هذا وإن كان يغضب بعض الناس، أو يظنون فيه الظنون، إلا أنه على المدى البعيد يقمع الفتنة ويرسخ الطمأنينة.



لكن من المؤكد أن هذه الحدة قد أثارت بعض الأنصار، فالنفس العربية بصفة عامة لا تقبل التهديد، وبالذات لو كانت هذه النفس لفارس، قام فارس الأنصار الحباب بن المنذر t وأعاد وكرر رأيه: منا أمير، ومنكم أمير.



وقد أثارته كلمات الفاروق t، ولم يكتف بذلك، بل قال كلمة أحسبها أفلتت منه قال: وإن شئتم كررناها خدعة.



أي أعدنا الحرب من جديد، أمر خطير، وارتفعت الأصوات، وكثر اللغط.



ونلاحظ أنه مع كل هذا الحوار، والجدل، فإننا لم نسمع سعد بن عبادة ولا مرة منذ دخل المهاجرون في أول اللقاء، لم يطلب لنفسه، ولم يبرر، ولم يقل قد بايعني قومي، ثم لاحظ أن الأنصار مع كل هذا الحوار الطويل، لم يذكروا ولو مرة واحدة منًّا على المهاجرين، ولا تفضلاً عليهم، لم يقولوا مثلاً: جئتمونا مطرودين فآويناكم، فقراء فأغنيناكم، محتاجين فأعطيناكم.



وهذا كله واقع صحيح، ولكن أدب وخلق الأنصار أغلق أبواب الشيطان، كما نلاحظ أيضًا أن المهاجرين لما طلبوا الإمارة فيهم، لم يقولوا ولو لمرة واحدة أنهم أفضل من الأنصار، أو أن كفاءتهم القيادية، أو الإدارية، أو الأخلاقية، أو الروحية أكبر من كفاءة الأنصار، أبدًا، كل ما يريدون ترسيخه هو فقه الواقع، الواقع سواء كان حلوًا، أو مرًّا يقضي بأن العرب لن تطيع إلا لقريش الآن، وبعد عشر سنين، وبعد مائة سنة، وما دام الواقع لم يحل حرامًا، أو يحرم حلالاً، فلا بد من مراعاته، وكما ذكرنا من قبل:



لأن يجتمع المسلمون على رجل مرجوح، أو أقل صلاحًا، خير من أن يفترقوا على رجل راجح أو أكثر صلاحًا.



هذه هي المعاني التي كان يدافع عنها المهاجرون الثلاثة، ونلاحظ أيضًا في هذا الموقف في سقيفة بني ساعدة أن الصحابة رضوان الله عليهم بشر، يجتهدون في الرأي، فيصيب بعضهم، فله أجران ويخطئ الآخر، فله أجر، فكما لا نرضى أن يطعن المستشرقون، وأتباعهم في صدق وأمانة وعدالة الصحابة، لا نقبل من الناحية الأخرى أن نعتقد أن حياتهم كانت اتفاقًا بلا اختلاف، أو اجتماعًا في الرأي دون تفرق فيه، أبدًا، الخلاف بين المسلمين أمر حتمي، لا بد أن يحدث، بل حدث في عهد رسول الله r، واختلف المسلمون في قضايا كثيرة في وجوده r، بل اختلف r في بعض القضايا مع الصحابة, في القضايا التي ليس فيها وحي، بل أحيانًا كان يرجح رأي الصحابة كما في قصة أسارى بدر عندما رجح رأي عمر بن الخطاب t الرجل الموفق المحدث الملهم، الذي نزل القرآن الكريم موافقًا لرأيه في أمور عدة.



نعم، وَسِّعوا المدارك، واقبلوا الخلاف في الآراء، لكن لا بد من اجتماع القلوب مهما اختلفت الآراء.



نعود إلى موقف الصحابة، بعد الكلمات الأخيرة لعمر بن الخطاب والحباب بن المنذر رضي الله عنهما، هذا الموقف المتأزم كيف يحل؟



وهذا الصوت المرتفع كيف ينخفض؟



وهذا الصدر الضيق كيف ينشرح؟


أبو عبيدة يغيّر خط الحوار في السقيفة :

إذا كان حديث العقل، والحجة، والبرهان يُقَسّي القلوب أحيانًا، فليكن حديث الوجدان والروح، يتكلم الأمين، أمين الأمة، يتكلم أبو عبيدة بن الجراح t، الرجل الرصين، الهادئ، أمين الأمة، قال جملة من سطر واحد، نزلت بالسكينة على السقيفة في لحظة، قال: "يا معشر الأنصار، إنكم أول من نصر وآزر، فلا تكونوا أول من بَدّل وَغيّر".



هكذا هذه الكلمات القليلة زلزلت كيان الأنصار، وهزت مشاعرهم هزًّا عنيفًا، أطلق الأمين أبو عبيدة سهمًا فاستقر في قلوب الأنصار قلبًا قلبًا، {وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آَوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ المُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال: 74].



يا رسول الله، اقسم بين إخواننا النخيل.



رضينا برسول الله قسمًا.



{وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} [الحشر: 9].



الأنصار يبدلون ويغيرون؟!



يا رسول الله خذ لنفسك ولربك ما أحببت.



نبايعك يا رسول الله على السمع والطاعة في عسرنا، ويسرنا، ومنشطنا ومكرهنا، وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله.



الله إنها ذكريات رائعة خالدة..



فما لنا بذلك يا رسول الله إن نحن وفينا بذلك؟



قال: "الْجَنَّةُ".



قالوا: ابسط يدك, فبسط يده فبايعوه.

أفاق الأنصار y أجمعين، أفاقوا على حقيقتهم العجيبة، أن الله خلقهم ليعطوا ويعطوا ويعطوا، النسمة الرقيقة الحانية التي تأتي بالخير، ولا تأخذ شيئًا، ارتفع بهم أبو عبيدة بجملته الموفقة من مواقع البشر والأرض، إلى مصاف الملائكة والسماء، تذكروا البيعة الخالدة، وتذكروا الهجرة، وتذكروا النصرة، وتذكروا الجهاد، والشهادة، تذكروا إخوانًا قدموا أرواحهم، وسبقوا صادقين، ما بدلوا وما غيروا.



تذكروا سعد بن معاذ.



تذكروا أسعد بن زرارة.



تذكروا سعد بن الربيع.



تذكروا أنصارًا، عاشوا أنصارًا، وماتوا أنصارًا.



تذكروا رسول الله r.



الحبيب الذي ما فارق إلا منذ قليل.



الذي ما زال نائمًا على سريره لم يدفن بعد.



الذي ما زال حيًّا في قلوبهم.



وسيظل كذلك حتى يموتون.



وانهمرت دموع الأنصار تفيض على الحاضرين جميعًا رحمة وأمنًا، وقام بشير بن سعد t الأنصاري الخزرجي مسرعًا ملبيًا لنداء أبي عبيدة، وكان ممن شهد العقبة الثانية، وكان شيخًا كبيرًا، قام فقال: يا معشر الأنصار، إنا والله لئن كنا أولي فضيلة في جهاد المشركين، وسابقة في هذا الدين، ما أردنا به إلا رضاء ربنا، وطاعة نبينا، والكدح لأنفسنا، فما ينبغي أن نستطيل بذلك، ولا نبتغي به من الدنيا عرضًا، فإن الله ولي النعمة، وولي المنة علينا بذلك، ألا إن محمدًا r من قريش، وقومه أحق به وأولى، ولا يراني الله أنازعهم في هذا الأمر أبدًا، فاتقوا الله، ولا تخالفوهم ولا تنازعوهم.



وتغير بالكلية خط الحوار في السقيفة، وبدأ الجميع يهدأ نفسًا، وظهر أن حجة المهاجرين أصبحت أعلى، لكن هذه الحجة ما كانت لتقنع الأنصار لولا أن قلوبهم مؤمنة، ولولا أن غايتهم الجنة.



قام أسيد بن حضير t زعيم الأوس، ودعا إلى أن يترك الأنصار الأمر ويبايعوا المهاجرين، ولعله أراد أن يقوي حجة المهاجرين فقال: إنه يخشى أن يحدث الخلاف مستقبلاً بين الأوس والخزرج إن تولى أحدهما، ولذلك فهو يؤيد المهاجرين، ولما رأى الصديق t أن نفوس الناس قد بدأت تطيب باختيار الخليفة من المهاجرين، أراد أن يضيف حجة تقوي من شأن هذا الاختيار وتزكيه، والحق أن الحجة تدل على ذكاء الصديق، وسعة اطلاعه على كتاب الله U، قال الصديق t: إن الله سمانا الصادقين، وسماكم المفلحين.



وذلك في إشارة لقول U: {لِلْفُقَرَاءِ المُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ * وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} [الحشر: 8, 9].



ثم انظر إلى الاستنباط، قال: وقد أمركم أن تكونوا معنا حيثما كنا، فقال في سورة التوبة:



{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119].



ثم استنبط أمرًا آخر من حديث رسول الله r، قال: إن رسول الله r أوصى بالأنصار خيرًا، وأوصى أن من تولى أمر المسلمين فعليه أن يقبل من محسنهم، ويتجاوز عن مسيئهم.



وذلك في إشارة واضحة أن الخليفة ليس منهم، إذ كيف يوصيه عليهم إن كان منهم.



وهكذا هدأت النفوس أكثر وازداد توحد المسلمين في رأي واحد، هذا كله، منذ دخول المهاجرين، وحتى هذه اللحظة، في أقل من ساعتين في تخيلي، فإن هذا اللقاء لم يقطع بصلاة، وكل هذه الأمور تمت، وما زالت هناك أمور أخرى ستتم في غضون هذه الفترة القصيرة، فأنعم به من جيل.


بين أبي بكر الصديق وسعد بن عبادة :

قام زيد بن ثابت الأنصاري t فقال: إن رسول الله r كان من المهاجرين، وإن الإمام إنما يكون من المهاجرين، ونحن أنصاره كما كنا أنصار رسول الله r.



وأضحى الناس جميعًا يتكلمون في هذا الاتجاه، لكن سعد بن عبادة t لم ينطق بعد، وموقفه حرج جدًّا، فمنذ ساعة، أو ساعتين كان مرشحًا للخلافة، وكان ذلك في ظنه وظن الأنصار في حكم المؤكد، والآن الوضع ينقلب مائة وثمانين درجة، ولا بد أنه الآن يفكر، ويفكر، ويعقد الموازنات، ويقارن الحجج والأدلة، ويشاور عقله وقلبه، لا بد أن هناك صراعًا نفسيًّا داخليًّا في داخله، أتراهم فعلاً على حق يستنبطون أن الخليفة من قريش أم يكون الرأي الصائب هو رأي الأنصار الأول؟



أفكار متزاحمة، والرجل مريض، ومرهق، ولا بد أن في داخله حيرة.



الصديق t يرقب الموقف في ذكاء، ويتابع الأحداث في فطنة لا تخلو من روية، في هذا الوقت، وقد وضح أن الأنصار قد اقتنعوا عقليًّا وقلبيًّا بأن المصلحة العليا للأمة تقتضي أن يكون الخليفة من المهاجرين، وبالذات من قريش، في هذا الوقت الذي قامت فيه الأدلة، وتظاهرت على إقناع الأنصار، قام الصديق t، قام فكشف الورقة الأخيرة في جعبته، وألقى بالدليل الدافع، والحجة الظاهرة البينة التي ما تركت شكًّا في قلب أحد، ولا أبقت ريبة في نفس أنصاري أو مهاجري، كلمات معدودات ولكن أثقل من الذهب، قال الصديق t: لقد علمت يا سعد -يخاطب سعد بن عبادة t- أن رسول الله r قال وأنت قاعد.



هو هنا يُذكّر سعد بن عبادة t بشيء من الواضح أن سعد نساه، إما لبعد الفترة، وإما لعدم فقه الحديث، وإما للحزن على رسول الله r، وإما للمرض، أو لغيره من الأسباب، قال الصديق t:



لقد علمت يا سعد أن رسول الله r قال وأنت قاعد: "قُرَيْشٌ وُلاةُ هَذَا الأَمْرِ، فَبَرُّ النَّاسِ تَبَعٌ لِبَرِّهِمْ، وَفَاجِرُ النَّاسِ تَبَعٌ لَفَاجِرِهِمْ".



قانون وضعه r، صريح جدًّا، فقال سعد كلمة عجيبة في بساطة غريبة، قال: صدقت، أنتم الأمراء، ونحن الوزراء.

هكذا في بساطة، هكذا قطع سعد بن عبادة رأس الأنصار وكبيرهم وزعيمهم والمرشح الأول للخلافة عندهم, هكذا قطع بخلافة قريش دون الأنصار، وهدأت السقيفة.



ولنا على هذا الحدث الفريد عدة تعليقات:



أولاً: الحديث الذي ذكره الصديق t، هو تشريع واضح من رسول الله r، والأمر الذي فيه تشريع ليس فيه اجتهاد، وهو فارق ضخم هائل بين الشورى وبين الديمقراطية، فالديمقراطية هي حكم الشعب للشعب، بمعنى أنه لو اجتمع الشعب على حكم صار تشريعًا يطبق عليه، خالف أو لم يخالف كتاب الله وسنة نبيه r، بينما الشورى في الإسلام لا تكون إلا في الأمور التي لم يرد فيها تحليل معروف أو تحريم معروف، فلا يجوز مثلاً أن يجتمع المسلمون ليتشاوروا أيبيعون الخمر أم لا يبيعونه؟



أيسمحون بالربا أو لا يسمحون به؟



أيشرعون الزنا أم لا يشرعونه؟



لا يجوز هذا، هنا في هذا الموقف في السقيفة، لا يجوز اختيار رجل من غير قريش حتى وإن وافق المهاجرون، ووافق الأنصار، الأمر خرج من أيديهم إلى يد الله U، ورسوله محمد r



{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِينًا} [الأحزاب: 36].



أحيانًا يظن الناس أن الخير في مخالفة الشرع في موقف من المواقف؛ لاعتبارات كثيرة، ولكن هذا قصور في الرؤية، وضعف في الإيمان، وشك في كلمة التشريع، وهنا في هذه الآية الكريمة التي ذكرناها يعقب الله U بقوله: {وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِينًا} [الأحزاب: 36].



لا شك أن المسلمين لو اختاروا رجلاً من غير قريش في هذا الاجتماع، لكان الضلال المبين بعينه، لكن الله U عصمهم من هذا الزلل، ومَنّ عليهم باتباع الشرع، واليقين فيه، والله أعلم كيف كان سيكون حال الأمة، لو تولى أمرها رجل من خارج قريش، وها قد مرت الأيام، ورأينا الخير الذي كان في خلافة الصديق t، وكيف الله ثبّت به الأمة ووطد أركان الدين ونشر كلمة التوحيد وأعلى شأن المؤمنين؟



وهذا كله ولا شك من بركات اتباع الشرع، واقتفاء آثار الرسول العظيم محمد r، والله U لا يطلب من المؤمنين اتباع الشرع فقط، بل والتسليم القلبي والوجداني له، بمعنى أن ترضى، ترضى رضًا حقيقيًّا بما اختاره الله لك، وللأمة، وبما شرعه الله لك، وللأمة، حتى وإن لم تكن ترى الحكمة بعينيك



{فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65].



هذا ما رأيناه في السقيفة، رأينا حكم رسول الله r بين الناس، مع أنه قد فارق الأرض بجسده، لكن ما زالت كلماته باقية، وما زالت حكمته باقية، وما زال شرعه باق، ورأينا في السقيفة غياب الحرج من نفوس الصحابة عند سماع كلام رسول الله r، وحكم الرسول r، ورأينا التسليم الكامل المطلق {وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65].



إذن ولاية قريش للخلافة تشريع عند المسلمين، وثبت ذلك في أحاديث أخرى كثيرة غير هذا الذي رواه أبو بكر الصديق في سقيفة بني ساعدة، والملحوظ أن رواة هذه الأحاديث لم يكونوا حاضرين وقت هذه المشاورة.



- روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله r:



وبالطبع فإن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما لم يكن حاضرًا في السقيفة.



- روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة t قال: قال رسول الله r: "النَّاسُ تَبَعٌ لِقُرَيْشٍ فِي هَذَا الشَّأْنِ، مُسْلِمُهُمْ تَبَعٌ لِمُسْلِمهم، وَكَافِرُهُمْ تَبَعٌ لِكَافِرِهِمْ".



وأيضًا لم يكن أبو هريرة حاضرًا في السقيفة.



- روى البخاري عن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما قال: قال رسول الله r: "هَذَا الأَمْرُ فِي قُرَيْشٍ لا يُعَادِيهِمْ أَحَدٌ إِلاَّ أَكَبَّهُ اللَّهُ فِي النَّارِ عَلَى وَجْهِهِ مَا أَقَامُوا الدِّينَ".



وأيضًا لم يكن معاوية بن أبي سفيان حاضرًا في السقيفة.



وهناك روايات أخرى كثيرة تحمل نفس المعنى علمها كثير من الصحابة، وكانوا إما غير حضور في السقيفة، أو نسوا الحديث حتى ذُكّروا به، أو لم يفقهوا معناه كاملاً، أو أذهلتهم مصيبة وفاة رسول الله r عن الاستدلال به، لكن الشاهد الذي لا ينكر أنه عندما ذكر هذا الحديث لم يعترض واحد من الصحابة، ولم يتطوع أحدهم برده أو تفسيره على محمل آخر، هذا كله دعا علماء المسلمين على التأكيد على أهمية أن يكون الخليفة من قريش:



- ذكر الإمام النووي مثلاً في شرح الأحاديث وأشباهها دليل ظاهر على أن الخلافة مختصة بقريش، لا يجوز عقدها لأحد من غيرهم، وعلى هذا انعقد الإجماع في زمن الصحابة، وكذلك بعدهم، ومن خالف فيه من أهل البدع، فهو محجوج بإجماع الصحابة والتابعين.



- وقال القاضي عياض رحمه الله في كتاب الأحكام السلطانية:



اشتراط كونه قرشيًّا، هو مذهب العلماء كافة.



- وذكر أيضًا الإمام ابن حجر العسقلاني في فتح الباري أن القرشية شرط في خليفة المسلمين.



- وذكر القرطبي رحمه الله أنه لا تنعقد الإمامة الكبرى إلا لقريش مهما وجد منهم أحد.



لكن مع كل ما سبق فإن هذه الأحاديث التي جعلت الإمامة في قريش لا تجعل هذا أمرًا مطلقًا بل تقيده بشيء هام، وهو كما جاء في رواية البخاري عن معاوية: "مَا أَقَامُوا الدِّينَ".



وكما جاء في رواية عن أبي بكر: "مَا أَطَاعُوا اللَّهَ وَاسْتَقَامُوا عَلَى أَمْرِهِ".



وكما جاء في رواية الإمام أحمد عن أنس بن مالك t قال: قال رسول الله r: "الأَئِمَّةُ مِنْ قُرَيْشٍ، إِنَّ لَهُمْ عَلَيْكُمْ حَقًّا، وَلَكُمْ عَلَيْهِمْ حَقًّا مِثْلَ ذَلِكَ، مَا إِنِ اسْتُرْحِمُوا، فَرَحِمُوا، وَإِنْ عَاهَدُوا وَفَوْا، وَإِنْ حَكَمُوا عَدَلُوا، فَمَنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ مِنْهُمْ، فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ".



إذن هذه شروط إن لم يحكم بها القرشيون وزاغوا عنها، ولم يتبعوا شرع الله U فلا طاعة لهم ولا إمرة.



أمر هام في قضية الأئمة من قريش، وهو أن القرشيين كانوا معروفين في صدر الإسلام، ولفترة بعده، ثم حدثت الفتوح الإسلامية، وخرج القرشيون وبقية العرب من الجزيرة العربية واستقر، كثير منهم في كل بقاع الأرض، في الشام، وآسيا، وشمال إفريقيا، والأندلس وغيرها، وهكذا توزعت قريش في أنحاء الأرض، ومع مرور الوقت نسي هؤلاء نسبتهم، وبالذات أولئك الذين يعيشون في المدن، فأصبحت مشكلة واضحة أن تعرف القرشيين الآن..



أضف إلى ذلك أن كثيرًا من غير القرشيين هاجر وعاش في الجزيرة ومع مرور الوقت أيضًا اختلطت الأنساب وازدادت المشكلة تعقيدًا، وزاد الموقف صعوبة بعد ذلك أن هناك كثيرين ادعوا النسب إلى قريش، بل إلى آل البيت وليسوا منهم، وذلك رفعًا لقدرهم، وإعلاءً لشأنهم، ووضعوا شجرات نسب تبين هذا الانتساب، وقد كثرت هذه الشجرات حتى أصبح من العسير التمييز بين الأصول الصحيحة من غيرها، في هذه القضية المعقدة هل تركنا الشرع دون طريق، حاشا لله



{اليَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ} [المائدة: 3].



قاعدة إسلامية أصيلة رواها البخاري عن أنس بن مالك t قال: قال رسول الله r: "اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَإِنِ اسْتُعْمِلَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ، كَأَنَّ رَأَسَهُ زَبِيبَةٌ، مَا أَقَامَ فِيكُمْ كِتَابَ اللَّهِ".



وهذا ما استند عليه العثمانيون مثلاً في خلافتهم للمسلمين، وهو سند صحيح، صحت به خلافتهم ما داموا يحكمون بكتاب الله U، وجمعوا فيه الأمة في وقت كانت القوة والغلبة، والسمع والطاعة لهم، وهو المقصود من الخلافة جمع الأمة تحت راية كتاب الله وسنة رسوله r.



إذن خلاصة هذه النقطة، أن الصحابة جميعًا انصاعوا تمامًا لحديث أبي بكر الصديق t لماذا؟



لأنه تشريع، وسكنت السقيفة وذهب الخلاف واستقر الناس على قريش.



تعليق هام على الحوار القصير الذي دار بين أبي بكر الصديق، وسعد بن عبادة رضي الله عنهما، الحق أن هذا الموقف من أعظم المواقف في التاريخ على الإطلاق، ومن الواضح أننا لم نعطِ للموقف حقه، ولم نعط لسعد بن عبادة t حقه، ولم نعط للأنصار حقهم، كيف يغفل المسلمون عن حدث مثل هذا يعلمونه ولا يتعلمونه؟



كيف لا يظهرونه، وغيره من المواقف الخالدة في تاريخ المسلمين؟!



رجلٌ هو السيد في قومه، وكبير عائلته، يقف، وحوله الفرسان، والجنود، والأنصار، والعشيرة، وأين يقف؟



يقف في سقيفته، سقيفة بني ساعدة فهو سعد بن عبادة الساعدي الخزرجي، وأين السقيفة؟



في بلده المدينة المنورة، وقد رشحه قومه للخلافة، والرئاسة، والزعامة، لا على شركة، أو مسجد، أو ناد، أو حزب، بل على أمة، على دولة، والرجل يتمتع بذكاء، وفطنة، وحسن إدارة، وتأييد شعبي حقيقي في بلده، يقف هذا الرجل المُمَكّن أمام رجل لاجئ سياسيًّا، لجأ إليه، إلى بلده، فر من قومه إليه، فآواه، وأكرمه، ونصره، وأعطاه، يقف هذا الرجل اللاجئ بين رجلين فقط من بلده، يقف الثلاثة في بحر من الأنصار، فإذا بالرجل اللاجئ يقول له: "قريش ولاة هذا الأمر".



وينزع الأمر الذي كان قد وُكِل إليه، ويعطيه إلى غيره، ماذا يكون رد فعل السيد والزعيم؟



إنه يقول في بساطة: "صدقت، أنتم الأمراء ونحن الوزراء".



لا جدل، ولا كلمة، ولا أخذ للحديث على محمل آخـر..



أيّ نفس طاهرة!



وأيّ روح زكية!



أيّ رجل وقاف على كتاب الله وعلى حديث رسول الله r! وأيّ تشويه قذر حدث لشخصه ولقومه الأنصار!



كم من الدماء حقنت! ولو شاء لسالت أنهارًا في شوارع المدينة..



كم من الأرواح حفظت! ولو شاء لقتلت بالآلاف..



أيّ فتنة قمعت!



وأيّ وحدة حدثت!



آثار مجيدة، ونتائج هامة لموقف وقفه الصحابي الجليل سعد بن عبادة لله، وأين الدنيا في عين الأنصار؟



كما اتهمهم المستشرقون وأحباؤهم، أين الدنيا؟



لو كانت الدنيا كما يدعون هي الباعث لهم على الاجتماع في سقيفة بني ساعدة، بعد وفاة رسول الله r، أكانت تقنعهم هذه الكلمات؟ أكانوا يقفون ويرضخون لحديث رواه في ساعتها رجل واحد سيصبح في نظرهم مستفيدًا من نتائجه؟



المستشرقون الذين طعنوا في الأنصار أحد رجلين:

إما رجل جاهل لا يعرف معنى القلوب المؤمنة، والنفوس المخلصة، ويقيس الأحداث بمقياس العصر الحديث حيث طغت المادية على الناس، وحيث ليس أقذر من السياسة، وليس أكثر من المؤامرات، والدس، والكيد، والغش، والنفاق، والخداع، هذا رجل جاهل من المستشرقين.



والرجل الآخر، هو رجل حاقد موتور، رأى دينا قيمًا، ورجالاً أخيارًا، وتاريخًا ناصعًا خالدًا نادرًا، فأكل الحقد قلبه، فرأى الحق وغض بصره عنه، وعلم الصواب وخالفه.

هؤلاء المستشرقون جُهّالاً كانوا أو حاقدين قد فعلوا في التاريخ ما فعلوا، وقد يكون عندهم ما يبرر جرائمهم، لكن أين المسلمون؟!



أتراه عدلاً أن نترك هذا الكنز الثمين من القيم، والأخلاق، والروائع، ونذهب لدراسة تاريخ أوربا، أو تاريخ الفراعنة، أو تاريخ الحضارة في الصين والهند؟!



أتراه من الحكمة أن نترك أعداءنا يعبثون بتاريخنا، ونسلم لهم الرقاب، ونتبع دون سؤال ولا استفسار؟!



أتراه صحيحًا أن ينشغل عنه علماء المسلمين في هذا الزمن الذي زادت فيه الهجمة الصليبية الشرسة على ديننا وأوطاننا؟!



أليس خيرًا لنا وللبشرية أن نستمتع بدراسة روائعنا التاريخية، وأصولنا الدينية؟



أي أمة أعظم من أمة الإسلام؟



وأي تاريخ أنقى من هذا التاريخ؟



تعليق ثالث سريع: إذا كان الصديق t يعرف هذا الحديث القاطع "ولاة الأمر من قريش"، فلماذا لم يذكره في أول المناقشة، ويقطع باب الجدل من بدايته، والحق أن هذا من حكمة الصديق t، وفطنته فلو ذكر هذا الحديث، ولم يقدم له البراهين الساطعة، والأدلة الدافعة، والحجة العقلية، في كون قريش أقدر على إدارة الأمور في دولة الإسلام، وأن العرب سيكونون أكثر طوعًا لقريش، لو ذكر الحديث دون أن يفعل ذلك، فقد يرفض الأنصار الانصياع له وتصبح كارثة، فمن الحكمة ألا تطلب أمرًا عسيرًا من رجل إلا بعد أن تهيئه نفسيًّا، لا تكون عونًا للشيطان على أخيك، اقدر للأمر قدره، خاطبوا الناس على قدر عقولهم، وراعوا حالتهم النفسية والمزاجية، الأنصار مهيئون نفسيًّا لتولي السلطة، وأدلتهم العقلية قوية، وحجتهم المنطقية مقبولة، ويُخشى عليهم ألا ينصاعوا لأمر الله ورسوله، إذن لا بد من معالجة الأمر بحكمة، والتدرج في إيصال الحكم، حتى إذا ما عرض الحكم، قبلوه دون تردد، واتبعوه دون شك، فقه راق، وحكمة رائعة، إنه الصديق t وأرضاه.



تعليق رابع على كلام الصديق t: شبهة تافهة أثارها بعض المستشرقين، وهي أن الحديث من اختلاق الصديق؛ لكي يرجح كفة المهاجرين في النقاش الدائر في سقيفة بني ساعدة، وواضح أن المستشرقين لم يفتقروا إلى العلم والفقه فقط، بل افتقروا أيضًا إلى الأدب، واضح أنهم لا يعلمون شيئًا عن الصديق، وعن الصحابة، ولا عن عدالة الصحابة أجمعين، ثم ألم يُروَ الحديث من طرق أخرى كثيرة، غير طريق الصديق t، وعن بعض الأنصار أيضًا، وجاء في كتاب الصحاح السنن في أكثر من موضع، ثم هل كان يسكت الأنصار إذا شكوا في الأمر؟



أكانت تعوزهم الحجة أو القوة؟



أكانوا يتركون ملكًا لحديث مشكوك فيه؟



فإن قال المستشرقون أن الأنصار استحيوا من أبي بكر، فنقول: ألم تقولوا عنهم منذ قليل إنهم طلاب دنيا وسلطان؟



أيستحي طالب دنيا من أن يقول لرجل يأخذ ملكه: هات الدليل على صدق ما تقول؟!



أليس انصياع الأنصار التام دليلاً على نبل أخلاقهم، وقيمهم من ناحية، ودليلاً على ارتفاع الصديق t فوق مستوى الشبهات من ناحية أخرى؟



هذا والله أراه حقًّا لا ريب فيه، لكن ماذا أقول؟



{فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى القُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46].



لا يَزَالُ هَذَا الأَمْرُ فِي قُرَيْشٍ مَا بَقِيَ مِنَ النَّاسِ اثْنَانِ.
استقر الصحابة في حوارهم كما ذكرنا على أن الخلافة ستكون في قريش، وهذه خطوة عظيمة للوصول إلى الخليفة، لكن ما زال هناك خطوات وخطوات، فقريش قبيلة عريقة بالبطون الشريفة، ففي أي بطن ستكون الخلافة، ثم إن المهاجرين بالآلاف، والرجال الذين يستطيعون إدارة الأمة أكثر مما يتخيل الإنسان، فكل رجل من المهاجرين أمة، مَن مِن هؤلاء سيتولى هذه الخلافة، وقد نتخيل أن الأمر شاق، وعسير، ولكن فلننظر ماذا حدث؟


عمر يبايع أبا بكر رضي الله عنهما :

قال الصديق t لعمر بن الخطاب t: ابسط يدك نبايع لك. فقال عمر: أنت أفضل مني. قال أبو بكر: أنت أقوى مني. قال عمر: فإن قوتي لك مع فضلك. أي مجتمع هذا الذي ينفر فيه كل رجل من الإمارة؟



ونحن نرى اليوم بعض الإخوة الملتزمين، ويفترض أنهم مدركين للدين جيدًا، ولكنهم يختلفون على إمامة مسجد، أو إمامة في صلاة، فماذا سيكون حالهم لو كانت إمامة أمة؟!



تقدم أبو عبيدة بن الجراح الأمين t وقال: لا ينبغي لأحد بعد رسول الله أن يكون فوقك يا أبا بكر، أنت صاحب الغار مع رسول الله ، وثاني اثنين، وأمّرك رسول الله حيث اشتكى فصليت بالناس، فأنت أحق الناس بهذا الأمر؟



وروى النسائي والحاكم أن عمر بن الخطاب t قال للناس: ألستم تعلمون أن رسول الله قدّم أبا بكر للصلاة؟ قالوا: بلى. قال: فأيكم تطيب نفسه أن يتقدم مَن قدّمه رسول الله ؟ قالوا: لا أحد، معاذ الله أن نتقدم على أبي بكر.



هنا وثب عمر بن الخطاب t الفاروق، فأخذ بيد أبي بكر الصديق في حسم واضح للمشكلة، وبايع الصديق على الخلافة، وطلب البيعة له من الحضور فماذا حدث؟


والأنصار يبايعون أيضًا :

قام أسيد بن حضير، وبشير بن سعد رضي الله عنهما يستبقان للبيعة، ووثب أهل السقيفة للبيعة، بايع الحباب بن المنذر t، وبايع ثابت بن قيس t، وبايع زيد بن ثابت t، وبايع كل الأنصار في السقيفة.



إلا سعد بن عبادة t، وحتى لا يذهب الذهن بعيدًا، فإن سعد بن عبادة t بايع بعد أيام قلائل من يوم السقيفة، وما منعه من البيعة في اليوم الأول إلا حراجة موقفه، فقد كان مبايعًا للخلافة قبل مبايعة أبي بكر بوقت قصير، كما أنه لا يستطيع حراكًا لمرضه، ويحسب له أن أخذ الموضوع في هدوء يحسد عليه، ولم يتكلم بكلمة، ولم يظهر منه في خلافة الصديق t أي اعتراض على إمارة الصديق، بل إنه خرج بإذنه إلى الشام مجاهدًا حيث استشهد هناك.



وهكذا في يوم السقيفة تمت البيعة لأبي بكر الصديق t بإجماع قلما يتكرر في التاريخ، وبآداب من المستحيل أن توجد في أمة غير أمة الإسلام، هذا تاريخكم، تطلعوا حولكم، وشاهدوا في كل بلاد العالم، كيف يكون الصراع على السلطة؟



آخر ما سمعت هو نصف مليون قتيل في صراعات على السلطة في أنجولا، وها نحن نرى ما يحدث في معظم بلاد العالم اليوم، ثم انظر ما يحدث أيضًا في البلاد التي يطلقون بلادًا حضارية متقدمة، أليست البرامج الانتخابية تشمل في الأساس محورين رئيسين:



المحور الأول: شكر في الذات، واستعراض للقدرات.



والمحور الثاني: محاولة التعريض، والسب، والقذف، والفضيحة بالنسبة للطرف الآخر.



ألا يبحث كل مرشح عن عيوب غيره؛ ليبرزها للناس فيسجل بها نقاطًا لصالحه؟



ألا تسمعون عن تزييف، وتزوير، ومكيدة؟



ألا تسمعون عن قهر، وتعذيب، وظلم، وبهتان؟



قارن بين ما رأيت في سقيفة بني ساعدة، وما ترى في أي سقيفة في العالم اليوم، وستدرك لا محالة عظمة هذا الدين ورقي هذا التشريع.



لاحظنا في هذه البيعة أنه لم يحضرها أحد من المهاجرين إلا الثلاثة الذين ذكرناهم كما لم يحضرها عامة الأنصار، بل حضرها رءوس القوم، ولذلك ففي اليوم التالي ذهب أبو بكر الصديق t إلى مسجد رسول الله ودعا عامة الناس، وخاصتهم من الذين لم يبايعوا بعد، حتى يبايعوا الصديق مبايعة عامة، ولم يتخلف عن هذا اللقاء إلا الذين كانوا مشغولين بتجهيز رسول الله للدفن، وهم أهل بيته: علي بن طالب ابن عمه وزوج ابنته فاطمة، والعباس بن عبد المطلب عم الرسول ، والزبير بن العوام ابن عمة رسول السيدة صفية بنت عبد المطلب رضي الله عنها.


الجميع يبايع الصديق t :

في اليوم الثاني صعد أبو بكر المنبر، ووقف عمر بن الخطاب يكلم الناس قبل أبي بكر، ويقدمه إليهم، فقال بعد أن حمد الله وأثنى عليه: أيها الناس قد كنت قلت لكم بالأمس مقالة، ما كانت إلا عن رأيي.



يقصد مقالة أن رسول الله ما مات، ولكن ذهب للقاء ربه كما ذهب موسى، وجميل جدًّا أن يعترف الإنسان بأخطائه أمام الناس، وهذا من عظمة الصحابة.



ثم يكمل: وما وجدتها في كتاب الله ، ولا كانت عهدًا عهده إليّ رسول الله ، ولكني كنت أرى رسول الله سيدبر أمرنا حتى يكون آخرنا.



أي أنه كان يعتقد أن الرسول سيكون آخر من يموت في هذا الجيل، ولكن الله شاء أن يموت، حتى يدير هؤلاء الأخيار الأمور بدون رسول، فيكونون نبراسًا لمن بعدهم، وهو اعتذار لطيف عما بدر منه أمس، فعمر قدوة وقد يتأثر به الناس.



ثم قال عمر t: وإن الله قد أبقى معكم كتاب الله الذي به هدي رسول الله ، فإن اعتصمتم به هداكم لما كان هداه له، وإن الله قد جمع أمركم على خيركم، صاحب رسول الله ، وثاني اثنين إذ هما في الغار، وأولى الناس بأموركم، فقوموا فبايعوه.



فقام الناس جميعًا من المهاجرين، والأنصار وبايعوا أبا بكر الصديق t على الخلافة، في إجماع عجيب، ثم قام الصديق t، وخطب خطبته المشهورة الرائعة، ثم بعد الانتهاء من دفن رسول الله ، جاء الزبير بن العوام t، وبايع أبا بكر الصديق، ثم جاء علي بن أبي طالب t، كما روى ابن سعد، والحاكم والبيهقي، وبايع في هذا اليوم الثاني، وهذا هام جدًّا؛ لأن كثير من الناس، وخاصة الشيعة يطعنون في بيعة علي للصديق t، ويصرون على أنها تأخرت ستة شهور كاملة بعد وفاة السيدة فاطمة رضي الله عنها، وسنأتي إن شاء الله إلى تحليل موقف علي بالتفصيل فيما بعد، ثم بعد أيام قليلة جاء سعد بن عبادة t وبايع الصديق على الخلافة.



إذن اجتمعت المدينة بأسرها على خلافة الصديق t، واستقرت الأوضاع، واجتمع الناس على قلب رجل واحد، كل هذا والمسلمون مصابون بمصيبة هي الأعظم في تاريخهم، مصيبة موت رسول الله ، لكن هذا المصاب ما عطل شرعًا، ولا أذهب عقلاً، ولا أوقف حياة، لا بد للحياة أن تسير، وعلى الوجه الذي أراده الله ، ورسوله .


بعض ما أثير من شبهات بشأن بيعة الصديق t :

رواية الطبري بشأن سعد بن عبادة: جاءت رواية عجيبة في الطبري، أعجب بها المستشرقون أيما العجب، وأظهروها في تأريخهم للحدث، ورددها وراءهم عدد من المعجبين بهم، والحق أن الطبري رحمه الله، مع أنه كان عالمًا جليلاً، وإمامًا عظيمًا، ما كان ينظر كثيرًا في إسناد الروايات التي يذكرها في كتابه، وقد اعترف هو بنفسه بذلك في مقدمة كتابه المشهور (تاريخ الأمم والملوك)، وقال: إن همه كان الجمع، وليس التحقيق، وإن على علماء الرجال، والحديث، والرواية أن يبحثوا في صحة ما جاء في كتابه.



جاءت في الطبري رواية تقول: إن سعد بن عبادة t قال بعد مبايعة الصديق t: لا أبايعكم حتى أرميكم بما في كنانتي، وأخضب سنان رمحي، وأضرب بسيفي. فكان -كما تقول الرواية- لا يصلي بصلاتهم، ولا يجمع بجمعتهم، ولا يقضي بقضائهم، ولا يفيض بإفاضتهم، أي في الحج.



هذه الرواية الباطلة إذا بحثت في أسانيدها ذهب عنك العجب، ففي إسنادها لوط بن يحيى، وهو شيعي صاحب هوى معروف، كثير الكذب، متروك، قال عنه الذهبي رحمه الله: إخباري تالف، لا يوثق به، ولم ينقل عنه إلا الشيعة، ولا يؤخذ بقوله البتة، وبالذات في القضايا الخلافية، وفي أمور الفتن.



فالرواية سندًا لا تصح بالمرة، كما أنها متنًا لا تصح أيضًا، فمن المستحيل أن ينسب مثل هذا الكلام إلى سعد بن عبادة t الصحابي الجليل الذي في رقبته بيعة العقبة الثانية على السمع والطاعة، ومن المستحيل أن يقول مثل هذا الكلام، ولا يخاطبه فيه الصحابة، ولا يخاطب فيه أبو بكر الصديق t، فهو كلام في غاية الخطورة، وسعد بن عبادة t ليس رجلاً عاديًّا، بل سيد الأنصار، ولو قال مثل هذا الكلام لأحدث فتنة لا محالة في المدينة، ولو كان هذا الموقف حقيقيًّا، لذكرته كتب السيرة الموثقة، ولكنه لم يرد في أي كتاب سيرة، ولا كتاب سنن، ولا في أي كتب من الصحاح، وبذلك يتضح فيه الاختلاق، سواء في السند، أو في المتن.


مسألة غضب علي والزبير يوم المبايعة :

تذكر إحدى الروايات أن عليًّا والزبير غضبا يوم المبايعة، والرواية صحيحة، وفعلاً غضب علي t، وغضب الزبير t، ولكن لماذا غضبا؟



أشاع الحاقدون أن هذا كان بسبب اختيار أبي بكر الصديق t، وكانا يريان أن غيره أفضل، وطبعًا المقصود بغيره هو علي بن أبي طالب t، ولكن، بالرجوع إلى نفس الرواية التي ذكرت غضبهما نجد أنها فسرت الغضب على محمل آخر، ومحمل مقبول، لكن المغرضين أخذوا ما يناسبهم من الرواية وتركوا بقيتها، روى الحاكم وموسى بن عقبة في مغازيه، عن عبد الرحمن بن عوف t بسند صحيح كما صححه ابن كثير رحمه الله، قال: ما غضبنا إلا لأنا أُخِرنا عن المشورة، وإنا نرى أن أبا بكر أحق الناس بها، إنه لصاحب الغار، وإنا لنعرف شرفه وخبره، ولقد أمره رسول الله أن يصلي بالناس وهو حي.



إذن غضب علي والزبير رضي الله عنهما كان؛ لأن مشورة اختيار الخليفة تمت في غيابهما، وهو أمر مفهوم ومقبول، ومن الطبيعي أن يغضبا لذلك، بل من الطبيعي أن يغضب بقية المهاجرين لهذا الأمر؛ لأنهم جميعًا لم يحضروا هذا الحدث الهام، ولا شك أن كثيرًا منهم من أهل الرأي والمشورة، كان ينبغي أن يكونوا حضورًا في اختيار الخليفة، ولا يكتفي بثلاثة من المهاجرين فقط، هذا عذرهم، لكن على الجانب الآخر فإن أبا بكر وعمر وأبا عبيدة y معذورون كذلك في غياب بقية المهاجرين، وقد رأينا الأحداث بالتفصيل، وكيف أن أبا بكر وعمر كانا في بيت رسول الله وقت اجتماع الأنصار، وجاء إليهما رجل أخبرهما بالخبر، فقاما إلى الأنصار على غير إعداد ولا تحضير، وفي الطريق لقيا أبا عبيدة بن الجراح t على غير اتفاق، فأخذاه معهما، ودخلوا جميعًا السقيفة، وتسارعت الأحداث في السقيفة كما رأينا..



وكان يُخشى إن لم يتم اختيار خليفة في ذلك الوقت أن تحدث فتنة في المدينة، وأن يكثر القيل والقال، والخلاف والتفرق، فما حدث لم يكن القصد منه استثناء المهاجرين من الحضور، ولكن سرعة التقاء الأنصار، ولهم ما يبررهم كما بَيّنا سابقًا هي التي أدت إلى هذه النتيجة العاجلة، ويبدو أن بعض المهاجرين الآخرين كانوا يجدون في أنفسهم لنفس السبب الذي ذكره علي بن أبي طالب، والزبير بن العوام رضي الله عنهما، مما دعا أبا بكر الصديق t أن يقف خطيبًا في المهاجرين بعد المبايعة بأيام كما روى موسى بن عقبة والحاكم بسند صحيح عن عبد الرحمن بن عوف t فقال: خطب أبو بكر الصديق t في المهاجرين فقال: ما كنت حريصًا على الإمارة يومًا ولا ليلة، ولا سألتها في سر، ولا علانية، ولكني أشفقت من الفتنة، وما لي في الإمارة من راحة، لقد قُلّدت أمرًا عظيمًا ما لي طاقة به ولا يد إلا بتقوى الله. فقبل المهاجرون مقالته.



والمهاجرون لا يحتاجون لهذه المقالة حتى يطمئنوا، فهم يعرفون صدق الصديق، وزهده، ومكانته، وقلبه، وإيمانه، ولو أخذت آراءهم جميعًا ما اختاروا غير الصديق t، ولكنه t أراد أن يقطع الشك باليقين، ويقتل الفتنة في مهدها، ويسترضي أصحابه مع كونه لم يكن مخطئًا في استثنائهم، بل كان مضطرًا.



إذن كان من الواضح أن إسراع الأنصار إلى سقيفة بني ساعدة لم يكن اجتهادًا مصيبًا منهم، فها هي آثار، ورواسب حدثت في نفس المهاجرين مع أن الخليفة أبا بكر منهم، فكيف لو كان من غيرهم؟



ونعود ونؤكد أن هذه الرواسب لم تكن لأمر قبلية، أو عصبية، أو اعتراض عن الاختيار، ولكن وجدوا في أنفسهم لاستبعاد رأيهم في هذه القضية الخطيرة، هذا الموقف من الأنصار y أجمعين هو الذي حدا بعمر بن الخطاب t أن يقول عبارتين في وقتين مختلفين، لم يفقههما القارئ غير المتتبع للأحداث، وللظروف التي قيلت فيها هاتان العبارتان:



أما العبارة الأولى فقد قالها يوم السقيفة وبعد مبايعة أبي بكر الصديق t إذ قال رجل من الأنصار لعمر بن الخطاب: قتلتم سعدًا والله. يقصد قتلتم سعد بن عبادة t سيد الأنصار باختياركم غيره، فقال عمر بن الخطاب: قتل الله سعدًا.



وهذه رواية صحيحة، بل في البخاري، وهذه الكلمة من عمر بن الخطاب t هي دعاء على سعد بن عبادة t، ولا شك أنها تعبير عما يجيش في صدر عمر t من أسى وحزن وغضب لاجتماع الأنصار بمفردهم، وذلك خشية الفتنة التي كان من الممكن أن تحدث لو اختاروا زعيمًا ليس على رغبة المهاجرين، يروي البخاري عن عمر بن الخطاب t تفسيرًا لهذا الموقف فيقول: "وَإِنَّا وَاللَّهِ مَا وَجَدْنَا فِيمَا حَضَرْنَا مِنْ أَمْرٍ، أَقْوَى مِنْ مُبَايَعَةِ أَبِي بَكْرٍ، خَشِينَا إِنْ فَارَقْنَا الْقَوْمَ، وَلَمْ تَكُنْ بَيْعَةٌ، أَنْ يُبَايِعُوا رَجُلاً مِنْهُمْ بَعْدَنَا، فَإِمَّا بَايَعْنَاهُمْ عَلَى مَا لا نَرْضَى، وَإِمَّا نُخَالِفُهُمْ فَيَكُونُ فَسَادٌ، فَمَنْ بَايَعَ رَجُلاً عَلَى غَيْرِ مَشُورَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَلا يُتَابَعُ هُوَ وَلا الَّذِي بَايَعَهُ؛ تَغِرَّةً أَنْ يُقْتَلا".



أي مخافة أن يقتلا نتيجة الفتنة التي قد تحدث، وليس معنى دعاء عمر بن الخطاب t على سعد بهذه الكلمة أن بينهما شقاقًا، أو كرهًا، فعمر بن الخطاب غضب من سعد في موقف من مواقف حياته العديدة كما يغضب رجل من رجل عند الاختلاف، وهذا شيء طبيعي جدًّا أن يحدث بين المؤمنين، ولكن ليس معناه أن يحدث هجران بين المسلمين أكثر من ثلاث، وهذا ما لم ينقل عن عمر بن الخطاب t، وسعد بن عبادة، أو عمر بن الخطاب والحباب بن المنذر أو غيرهم، وليس من الطبيعي، ولا الفطري أن يتعايش الناس دون اختلاف في الرأي، أو غضب من بعض الأفعال، أو حتى خروج لبعض الكلمات التي لا يرضى عنها قائلها، فهذا أمر وارد في حق البشر جميعًا، لكن المهم هو عدم التمادي في هذه الأمور، والمهم هو العودة سريعًا إلى الاجتماع بعد الاختلاف.



العبارة الثانية التي قالها عمر بن الخطاب t، جاءت في رواية البخاري ومسلم عن عمر بن الخطاب t في أيام إمارته على المسلمين خطب في الناس فقال: بلغني أن فلانًا منكم يقول: لو مات عمر بايعت فلانًا.



يقصد أنه سيبايع فلانًا، وفلانًا هذا هو طلحة بن عبيد الله t دون مشورة أحد، فهو في رأيه أحق الناس بالخلافة بعد عمر، يكمل عمر فيقول: فلا يغترن امرؤ أن يقول: إن بيعة أبي بكر كانت فلتة، وتمت.



فلتة بمعنى فجأة، فعمر يريد أن يحذر من يقول بيعة أبي بكر كانت فجأة دون ترتيب، ومع ذلك تمت، ونجحت، وبويع أبو بكر، فما المانع إن مات عمر أن نبايع رجلاً فجأة، ويتم له الأمر.



ثم يكمل عمر يصحح المفاهيم للأمة، ويقول: ألا وإنها -أي بيعة الصديق- قد كانت كذلك إلا أن الله وقى شرها.



وهذه عبارة هامة جدًّا، يقصد عمر أن عملية الانتخاب الفجائية كان من الممكن أن يتبعها شر عظيم، فلا بد أن تعقد الشورى بين كل الأطراف الذين يستعان برأيهم في هذه الأمور، وبيعة الصديق الفجائية كان من الممكن أن لا تقر من عامة المسلمين، لولا أن المبايع هو أبو بكر الصديق t، ولو تخيلنا أن المهاجرين انقسموا على أنفسهم فاختار بعضهم طلحة مثلاً، واختار بعضهم عليًّا مثلاً، واختار بعضهم عمر مثلاً، وهكذا، كيف يجتمعون؟

ولذلك قال عمر بن الخطاب تعقيبًا على هذا الكلام: وليس فيكم اليوم من تقطع إليه الأعناق مثل أبي بكر.



أي أن السابق فيكم الذي لا يُلحق في الفضل لا يصل إلى منزلة أبي بكر، فلا يطمع أحد أن يقع له مثل ما وقع لأبي بكر من المبايعة له، فأبو بكر الصديق وقعت له المبايعة بالإجماع في الملأ اليسير في السقيفة، ثم وقعت له المبايعة في عامة الناس من رءوس القوم الذين لم يحضروا البيعة، وليس هذا إلا للصديق t.



لذا نصيحة عمر للأمة ألا تتسرع في أمر اختيار قائدها، فليس منهم من سيجمع الناس عليه مثلما أجمعوا على أبي بكر، فعليهم بالشورى المتأنية وبطرح كل الأسماء المرشحة، وبدراسة كل واحد منهم، ثم اختيار واحد، ومن المؤكد أن هذا الواحد سيكون مقبولاً من بعض الناس، ومرفوضًا من غيرهم، فإذا حدث اختياره بعد شورى حقيقية، أمن الشعب الفتنة، وإن أرغم الناس عليه إرغامًا فلا تؤمن الفتنة.



سؤال لا بد أن يطرح نفسه الآن:


لماذا أجمع الناس على بيعة الصديق t؟

يبدو أننا مهما قلنا، ومهما شرحنا، ومهما ذكرنا من مواقف وأحداث، فإننا لن نوفي هذا الرجل حقه، فنحن إن كنا نقارنه بأناس عاديين، لكان يسيرًا أن نفقه هذا الاجتماع على صعوبته، لكنه t، يقارن برجال أعلام أفذاذ عباقرة، ما تكرر في التاريخ جيل مثلهم، كل رجل منهم أمة، وأَخْرِج كتب السيرة، والتاريخ، واقرأ:



- اقرأ مثلاً قصة حياة عمر بن الخطاب t، وما فعله للإسلام والمسلمين منذ أسلم وحتى مات، اقرأ عن علمه، وعدله، وفقهه، وورعه، وتقواه.



- اقرأ مثلاً عن عثمان بن عفان t، وما قدمه في حياته الطويلة، اقرأ عن كرمه، وزهده، وعن أخلاقه.



- اقرأ مثلاً عن علي بن أبي طالب t، وعن تاريخه المجيد، وفضله العظيم، وكلامه الحكيم، اقرأ عن قوته، وحكمته، وحلمه، وشجاعته، وذكائه.



- اقرأ عن غيرهم من الصحابة، عن الزبير، عن طلحة، عن أبي عبيدة بن الجراح، عن سعيد بن زيد، عن عبد الرحمن بن عوف، عن سعد بن أبي وقاص.



من المؤكد أن كل اسم من هذه الأسماء يترك في النفس العديد من ذكريات من الإيمان، والجهاد، والبذل، والمروءة.



- اقرأ عن حمزة، عن مصعب، عن سلمان، عن حذيفة، عن صهيب، عن بلال، اقرأ عن أبي ذر، عن معاذ، عن ابن مسعود، عن ابن عباس، عن عمار، عن خالد.



- اقرأ عنهم وعن عشرات معهم، وعن مئات معهم، وعن آلاف معهم، بل عن ملايين معهم.



- اقرأ عن عظماء، وعلماء المسلمين في كل عصر، وفي كل مكان، اقرأ عنهم جميعًا.



- واعلم أنهم لو جمعوا في كفة جميعًا، كل من سبق ذكرهم، لو جمعوا في كفة، والصديق في كفة لرجح بهم الصديق..



أيّ فضل!



وأيّ قدر!



وأيّ عظمة!



وأيّ مكانة!



روى الإمام أحمد رحمه الله بسند صحيح عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: خرج علينا رسول الله ذات غداة بعد طلوع الشمس فقال: "رَأَيْتُ قُبَيْلَ الْفَجْرِ كَأَنِّي أُعْطِيتُ الْمَقَالِيدَ، وَالْمَوَازِينَ، فَأَمَّا الْمَقَالِيدُ فَهَذِهِ الْمَفَاتِيحُ، وَأَمَّا الْمَوَازِينُ فَهِيَ الَّتِي تَزِنُونَ بِهَا، فَوُضِعْتُ فِي كِفَّةٍ، وَوُضِعَتْ أُمَّتِي فِي كِفَّةٍ، فَوُزِنْتُ بِهِمْ، فَرَجَحْتُ، ثُمَّ جِيءَ بِأَبِي بَكْرٍ، فَوُزِنَ بِهِمْ، فَوَزَنَ، ثُمَّ جِيءَ بِعُمَرَ، فَوُزِنَ، فَوَزَنَ، ثُمَّ جِيءَ بِعُثْمَانَ، فَوُزِنَ بِهِمْ، ثُمَّ رُفِعَتْ".



أي رفعت الموازين، ويبدو أيضًا أننا لا نعطي القدر الكافي لعمر t، ولعثمان t، ونسأل الله أن ييسر لنا الحديث عنهم بشيء من التفصيل، لاحقًا إن شاء الله.



نعود إلى أبي بكر الصديق t، وهناك العديد من الأحاديث التي تذكر فضل الصديق t وأرضاه، أكثر من أن تحصى هنا، فالصحابة ما ترددوا في اختيار الصديق، وما اختلفوا عليه؛ لأنه بالإجماع كان أفضلهم، وكانوا يعلمون ذلك زمان رسول الله ، ولنمر قليلاً بين أقوال الرسول ، وأقوال الصحابة y في حق هذا الرجل الجليل:



- روي البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كنا نخير بين الناس في زمان رسول الله ، فنخير أبا بكر، ثم عمر بن الخطاب، ثم عثمان بن عفان y أجمعين. وفي رواية الطبراني زاد: فيعلم بذلك النبي ، ولا ينكره.



- وروى البخاري عن عبيد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: كنا لا نعدل بأبي بكرٍ أحدًا، ثم عمر، ثم عثمان، ثم نترك أصحاب رسول الله ، فلا نفاضل بينهم.



- وأخرج ابن عساكر عن أبي هريرة قال: كنا معاشر أصحاب رسول الله ، ونحن متوافرون نقول: أفضل هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم نسكت.



- وأخرج الإمام أحمد عن علي بن أبي طالب t قال: خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر وعمر.



يعلق الذهبي على هذا الحديث فيقول: هذا متواتر عن علي t، فلعن الله الرافضة ما أجهلهم. الرافضة أي الطائفة من الشيعة التي رفضت خلافة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما.



- وأخرج الترمذي والحاكم عن عمر بن الخطاب t قال: أبو بكر سيدنا، وخيرنا، وأحبنا إلى رسول الله .

وبالطبع فهذا الحب من رسول الله لم يستنتجه عمر، ولكن رسول الله صرح به من قبل.



- روى البخاري ومسلم عن عمرو بن العاص t قال: قلت: يا رسول الله، أي الناس أحب إليك؟ قال: "عَائِشَةُ". قلت: من الرجال؟ قال: "أَبُوهَا". قلت: ثم من؟ قال: "عُمَرُ". قلت: ثم من؟ قال عمرو بن العاص: فعد رجالاً.



- وروى الطبراني، عن عمار بن ياسر رضي الله عنهما قال: من فضل على أبي بكر، وعمر أحدًا من أصحاب رسول الله ، فقد أزرى على المهاجرين والأنصار. أي انتقص من المهاجرين والأنصار.



- وروى البخاري، عن أنس بن مالك t، أن رجلاً سأل رسول الله عن الساعة، فقال: متى الساعة؟ قال: "وَمَاذَا أَعْدَدْتَ لَهَا؟" قال: لا شيء، إلا أني أحب الله ورسوله. فقال الرسول: "أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ". قال أنس: فما فرحنا بشيء فرحنا بقول الرسول : "أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ".



قال أنس: فأنا أحب النبي ، وأبا بكر، وعمر، وأرجو أن أكون معهم بحبي إياهم، وإن لم أعمل بعملهم. فإحساس أنس t بأبي بكر، وعمر، كان هو إحساس كل الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين.



- وأخرج الترمذي وحسنه ابن ماجه وأحمد وغيرهم عن أنس قال: قال رسول الله لأبي بكر وعمر: "هَذَانِ سَيِّدَا كُهُولِ الْجَنَّةِ مِنَ الأَوَّلِيينَ وَالآخِرِينَ خَلا النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ".



الكهل بين الثلاثين والأربعين، وقيل المقصود بالكهل العاقل الحكيم، وأخرج الترمذي نفس الحديث عن علي.



- وأخرج الترمذي وحسنه عن أبي سعيد الخدري t قال: قال رسول الله : "إِنَّ أَهْلَ الدَّرَجَاتِ الْعُلَى لَيَرَاهُمْ مَنْ تَحْتَهُمْ كَمَا تَرَوْنَ النَّجْمَ الطَّالِعَ فِي أُفُقِ السَّمَاءِ، وَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ مِنْهُمْ".



وأخرج الطبراني نفس الحديث عن جابر بن سمرة وعن أبي هريرة.



- وأخرج الترمذي والحاكم وابن ماجه عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله خرج ذات يوم، فدخل المسجد، وأبو بكر وعمر، أحدهما عن يمينه والآخر عن شماله، وهو آخذ بأيديهما وقال: "هَكَذَا نُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ".



وأخرجه الطبراني عن أبي هريرة t.



- وأخرج الترمذي والحاكم عن ابن عمر قال: قال رسول الله : "أَنَا أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الأَرْضَ، ثُمَّ أَبُو بَكْرٍ، ثُمَّ عُمَرُ".



- وأخرج الترمذي والحاكم وصححه عن عبد الله بن حنطب، أن النبي رأى أبا بكر وعمر فقال: "هَذَانِ السَّمْعُ وَالْبَصَرُ".



وأخرجه الطبراني من حديث ابن عمرو وبطرق أخرى عن ابن عباس وعن جابر.



- وأخرج الترمذي وقال: حسن صحيح، عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله قال لأبي بكر: "أَنْتَ صَاحِبِي عَلَى الْحَوْضِ، وَصَاحِبِي فِي الْغَارِ".



والصحبة في الغار فضيلة ولا شك.



هذه مجموعة من الأحاديث التي تثبت فضل الصديق على باقي الصحابة، وهي ليست كل ما ورد في حق الصديق t، فقد أعرضت عن مجموعة ضخمة من الأحاديث إما لتكرارها، وإما لضعف في السند، هذه الكثرة في الأدلة جعلت علماء أهل السند يتفقون على أفضلية الصديق t، ويتفقون على تقديمه على كل الصحابة t أجمعين،



هذه الدرجة العالية من الفضل، والإيمان جعلت رسول الله يطمئن إلى إيمان الصديق، وإلى تصديق الصديق حتى في غيابه، وهذه درجة عالية جدًّا في الفضل، بمعنى إذا ذكر رسول الله أمرًا عجيبًا غريبًا قد يشك فيه بعض الناس، فإن رسول الله يطمئن، ويضمن أن يصدقه الصديق حتى قبل أن يعرف موقف الصديق، درجة متناهية في الفضل بين الصحابة، وهاكم دليلاً على ذلك:



- أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة t قال: قال صلى رسول الله الصبح، ثم أقبل على الناس فقال: "بَيْنَا رَجُلٌ يَسُوقُ بَقَرَةً إِذْ رَكِبَهَا فَضَرَبَهَا, فَقَالَتْ: إِنَّا لَمْ نُخْلَقْ لِهَذَا إِنَّمَا خُلِقْنَا لِلْحَرْثِ", فَقَالَ النَّاسُ: سُبْحَانَ اللَّهِ بَقَرَةٌ تَكَلَّمُ, فَقَالَ: "فَإِنِّي أُومِنُ بِهَذَا أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَمَا هُمَا ثَمَّ" -أي لم يكونا موجودين في هذا اللقاء الذي يتحدث فيه رسول الله، ثم يكمل رسول الله : "وَبَيْنَمَا رَجُلٌ فِي غَنَمِهِ إِذْ عَدَا الذِّئْبُ فَذَهَبَ مِنْهَا بِشَاةٍ فَطَلَبَ حَتَّى كَأَنَّهُ اسْتَنْقَذَهَا مِنْهُ، فَقَالَ لَهُ الذِّئْبُ هَذَا اسْتَنْقَذْتَهَا مِنِّي فَمَنْ لَهَا يَوْمَ السَّبُعِ يَوْمَ لا رَاعِيَ لَهَا غَيْرِي"، فَقَالَ النَّاسُ سُبْحَانَ اللَّهِ ذِئْبٌ يَتَكَلَّمُ, قَالَ: "فَإِنِّي أُومِنُ بِهَذَا أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَمَا هُمَا ثَمَّ".



واختلفوا كثيرًا في شرح المقصود بحادثة السبع هذه، لكن الشاهد الثابت من القصة هو تكلم الذئب، وتكلم البقرة، وإيمان الرسول بذلك، وإيمانه بأن الصديق وعمر رضي الله عنهما سيؤمنون بذلك حتمًا، ولم يكونا حاضرين في المجلس، وهي فضيلة ولا شك للصحابيين الجليلين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما.



إذن ليس من عجب أن يختار المؤمنون أبا بكر الصديق للخلافة بعد رسول الله ، فالأحاديث السابقة، وغيرها تشير إلى أن الصحابة جميعًا كانوا يعتبرونه أفضلهم، وأقربهم إلى رسول الله ، وأعلاهم منزلة في الدنيا والآخرة، وهذا كله سَهّل عليهم اختياره خليفة للمسلمين، بل إن هذا الأمر لم يكن خافيًا حتى على المشركين، كان المشركون يعلمون أن أبا بكر الصديق t هو الوزير الأول لرسول الله وأكثر الصحابة قربًا له، حتى في الهجرة لما اكتشف خروج رسول الله من بيته، والمشركون يحاصرون البيت ماذا فعلوا بعد هذا الاكتشاف؟



أول شيء فعلوه أن ذهبوا إلى بيت الصديق ، فهم يعلمون أنه الصاحب الأول له، ولا بد أن الصديق يعرف مكانه، وصدق ظنهم فلم يجدوه هناك، فضرب أبو جهل السيدة أسماء رضي الله عنها على وجهها حتى أطار قرطها، لماذا تجاوز أبو جهل الحدود؟



لأنه على يقين من أن الصديق خرج مع رسول الله ، فأعماه الحقد عن مراعاة قواعد الجاهلية من احترام حرمة البيوت، ومن عدم التعرض للنساء بالأذى.



- في يوم أحد لما هزم المسلمون، وانسحبوا إلى الجبل جاء أبو سفيان ليتأكد من موت زعماء المسلمين، فالزعيم الأول بلا شك كان رسول الله فقال أبو سفيان: أفيكم محمد ؟ فلم يجيبوه، لأن الرسول كان قد أمرهم ألا يجيبوه، فماذا قال أبو سفيان؟ لقد قال مباشرة: أفيكم ابن أبي قحافة؟ فلم يجيبوه، إذن أبو سفيان كان يعلم أن القائد بعد رسول الله هو أبو بكر الصديق t فلما لم يجيبوه قال: أفيكم عمر؟ فلم يجيبوه أيضًا لأن الرسول منعهم من الإجابة، فهؤلاء هم الزعماء الثلاثة بالترتيب في نظر أبي سفيان المشرك آنذاك، عندها قال أبو سفيان: أما هؤلاء فقد كفيتموهم. هنا لم يملك عمر نفسه فقال: يا عدو الله إن الذين ذكرتهم أحياء، وقد أبقى الله ما يسوءك.



إذن الشاهد من هذه الأمور أن الناس أجمعين مؤمنهم وكافرهم كانوا يرون أن أبا بكر t هو الرجل الثاني في هذه الدولة، وهو الرجل المتوقع أن يخلف رسول الله إذا غاب الرسول أو مات..



طبعًا، بفضل الله، عموم المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها الآن يؤمنون بصحة خلافة الصديق، وبفضله ومكانته، لكننا ندلل على هذا الأمر لأن هناك طائفة من المستشرقين، وطائفة من الشيعة، وطائفة من العلمانيين يطعنون في خلافة الصديق t، ويطعنون في سرعة اختياره في سقيفة بني ساعدة، ذلك أنهم لا يقدرون للصديق قدره، ولا يعرفون مكانته، أو هم يعرفون وينكرون لأهداف خبيثة في نفوسهم..



وللأسف الشديد فهذا التيار الرامي إلى الطعن في خلافة الصديق، وفي نزاهة الصحابة الذين اختاروا هو تيار متصاعد في البلاد الإسلامية في ظل العلمانية المتصاعدة في كثير منها، وفي ظل سيطرة كثير من العلمانيين على كراسي التعليم والتربية في كثير من جامعات ومدارس المسلمين، وفي ظل الهجمة الصليبية، واليهودية الشرسة على دين الإسلام، وعلى المسلمين، الطعن في خلافة الصديق يدرس في كثير من الجامعات المتخصصة، وفي أقسام التاريخ، وأقسام السياسة، ولا بد للمسلمين من وقفة، ولا بد لعلماء المسلمين من انتباه، ولا بد للآباء والمربين أن يتعلموا فضل الصديق، وفضل الصحابة، ويعلمونه أولادهم وتلامذتهم، فالدفاع عن الصديق والصحابة دفاع عن الدين في صلبه وفي عمقه.



وقد يقال من قِبَل العلمانيين والمتشككين: آمنا معكم بفضله، ومكانته، وإيمانه، وتقواه، لكن ليس بالضرورة أن يكون المؤمن التقي الورع هو أصلح الناس للخلافة فرسول الله لم يعط الإمارة لأناس لا يشك أحد في تقواهم، وورعهم لأنهم لا يصلحون للقيادة والإمارة، فلم يعط لأبي ذر مثلاً وقال له: إنك امرؤ ضعيف.



وولى عمرو بن العاص على وجوه الصحابة بما فيهم أبو بكر وعمر في سرية ذات السلاسل؛ لأنه أبصر بالحرب، فقد يكون هناك ممن هو أبصر بالخلافة من أبي بكر الصديق t.



ونحن وإن كنا نعلم أن هذا الطرح من المتشككين طرح جدلي لأن الأيام أثبتت تفوقه على غيره في كل الأمور، إلا إننا نسير معهم فيما قالوه، ونقارع كما يقولون الحجة بالحجة والبرهان بالبرهان، نقول لهم: ما هي شروط الخليفة في الإسلام؟
هناك من الشروط ما يتفق فيها كل الصحابة:


الشرط الأول: الإسلام

يتفق فيه كل الصحابة، وهو الإسلام، فلا يجوز لدولة إسلامية غالب سكانها من المسلمين أن يكون الحاكم نصرانيًّا أو يهوديًّا مثلاً، ولا تنظروا إلى ما يحدث في بعض بلدان العالم الإسلامي من ولاية النصارى على الدولة، مثل نيجيريا مثلاً، فهذه مخالفة شرعية واضحة.


الشرط الثاني: البلوغ

وهذا أيضًا يجتمع فيه كل الصحابة المرشحين للخلافة.


الشرط الثالث: الذكورة

لا بد أن يتولى أمور المسلمين وبالذات إمامة البلد والقيادة الأولى فيها رجل، أعلم أن بعض البلدان الإسلامية تجعل على رئاستها امرأة، ولعلهم يفتقرون إلى رجل تتوافر فيه شروط الإمامة، شرط الذكورة طبعًا يتوافر في كل المرشحين للخلافة في زمان الصحابة.



إذن هذه الشروط الثلاثة الإسلام والبلوغ والذكورة لا يتفاضل فيها أحد من الصحابة على أحد.


الشرط الرابع: العدالة

ثم شرط العدالة، والصحابة جميعًا عدول باتفاق العلماء، والعدالة: هي ملكة في الشخص تحمله على ملازمة التقوى والمروءة.



والتقوى، وإن كانت من الأعمال التي تحتاج توافق بين الظاهر والباطن، والسر والعلانية إلا أن التقوى التي يبنى عليها شرط العدالة هي التي يراها الناس فقط، فليس لأحد أن يطلع على قلب أحد، ومن هذا المنطق فإن تعريف التقوى المطلوبة في الخليفة هو: اجتناب الأعمال السيئة من الشرك والفسق والبدعة.



لا بد ألا يأتي بأي عمل من أعمال الشرك، ولا بد أن يجتنب الأمور التي يتهم صاحبها بالفسق، مثل ترك الصلاة، وترك الزكاة، وترك الصيام، وفعل الكبائر الأخرى كشرب الخمر، أو الزنا، أو المجاهرة بفحش القول والعمل، أو القتل بغير حق، أو الاستهزاء بالدين، ولا بد أيضًا أن يتجنب البدعة فضلاً عن أن يدعو لها، واختلفوا في الصغائر؛ أي اجتنابها شرط أم لا، واتفقوا على أن الإصرار عليها يخل بشرط العدالة، أما المراد بالمروءة فهو: التنزه عن النقائص التي قد تكون مباحة، ولكن لا تصح في حقه.



وهذه ترتبط بالشرع والعرف معًا، مثلاً كثرة المزاح، وضياع الهيبة مثلاً تسقط مروءة الرجل، وإن كان صادقًا في مزاحه، وقديمًا كانوا يعتبرون الأكل في الشوارع والأسواق من مسقطات المروءة، لكن العرف الآن يجيز ذلك ولم ينه الشرع عنه كذلك.



إذن شرط العدالة يقتضي أن يكون الخليفة تقيًّا صاحب مروءة وإن كنا قد ذكرنا أن الصحابة كلهم عدول من هذه الوجهة، إلا أنه من الواضح والمعلوم أن أبا بكر الصديق t هو أكثرهم عدالة، وأعظمهم تقوى، وأشدهم مروءة، لما سبق من الأحاديث ولشهادة رسول الله له بالإيمان والصحبة والدرجة العالية في الجنة.


شروط تفوق فيها الصديق :

تأتي بعد الشروط السابق ذكرها والتي يشترك فيها جميع الصحابة المؤهلين للخلافة في ذلك الوقت؛ تأتي شروط أخرى في غاية الأهمية، وهي تحتاج إلى بعض البحث في أحوال الصحابة لنرى من هو أصلح الناس على ضوء هذه الشروط لتولي الخلافة، هذه الشروط المتبقية ثلاثة:



- الشجاعة والقوة والنجدة.



- العلم والدراية بأمور الفقه والدين والحياة بصفة عامة.



- حسن الرأي وحسن الإدارة والحكمة في المفاضلة بين الأمور.



طبعًا هناك شرط رابع تحدثنا عنه من قبل وهو أن يكون من قريش وهذا الشرط استثنى الأنصار كما ذكرنا من قبل.



فمع هذه الشروط الثلاثة؛ لكي نرى أين موقع الصديق منها:


الشجاعة والقوة والنجدة:

لا بد للخليفة أن يكون كذلك، وإلا ضاعت هيبة البلاد، قرار الحرب يحتاج إلى رجل شجاع لا يهاب الموت، بل يطلبه، إذا تردد الخليفة في نفسه ساعة، أو ساعتين، أو يومًا، أو يومين، قد تضيع البلاد نتيجة التردد والجبن.



أين الصديق في صفة الشجاعة؟

روى البخاري عن عروة بن الزبير رحمه الله قال: سألت عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن أشد ما صنع المشركون برسول الله فقال: رأيت عقبة بن أبي معيط جاء إلى النبي وهو يصلي، فوضع رداءه في عنقه، فخنقه خنقًا شديدًا، فجاء أبو بكر حتى دفعه عنه، فقال: "أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله، وقد جاءكم بالبينات من ربكم؟"



ففي هذا الموقف العصيب، محاولة لقتل رسول الله يأتي أبو بكر الصديق دون غيره من الصحابة، ويدافع عن رسول الله في موقف من أشد المواقف خطورة على حياة الرسول، وعلى حياة الصديق نفسه، لكنه إذا انتكهت حرمة الدين، أو حرمة الرسول لا ينظر لنفسه أبدًا.



انظروا إلى هذه الرواية التي رواها البزار في مسنده، وذكرها ابن حجر العسقلاني في فتح الباري عن شرحه للحديث السابق، هذه الرواية عن علي بن أبي طالب t قال علي t: "أَخبِروني من أشجع الناس؟", وكان وقتها أمير المؤمنين، قالوا: أنت. قال: "أما إني ما بارزت أحدًا إلا انتصفت منه، ولكن أخبروني بأشجع الناس". يقصد أنه شجاع، ولكن هناك من هو أشجع منه، فقال الناس: لا نعلم، فمن؟ قال: "أبو بكر".



ثم بدأ يفسر لهم، قال: إنه لما كان يوم بدر، فجعلنا لرسول الله عريشًا، فقلنا: من يكون مع رسول الله لئلا يهوي إليه أحد من المشركين؟ فو الله ما دنا أحد إلا أبو بكر شاهرًا بالسيف على رأس رسول الله ، لا يهوي إليه أحد إلا هوى إليه، فهو أشجع الناس..



ثم يكمل علي ويقول: ولقد رأيت رسول الله وقد أخذته قريش -وهو هنا يقص موقفًا من مواقف مكة- فهذا يجبأه، وهذا يتلتله، وهم يقولون: أنت الذي جعلت الآلهة إلهًا واحدًا؟ قال: فوالله ما دنا منه أحد، إلا أبو بكر يضرب هذا، ويجبأ هذا، ويتلتل هذا، وهو يقول: ويلكم أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله.



ثم رفع علي بردة كانت عليه فبكى حتى اخضلت لحيته، ثم قال: أنشدكم الله أمؤمن آل فرعون خير أم أبو بكر؟ فسكت القوم، فقال: ألا تجيبوني؟ فوالله لساعة من أبي بكر خير من ألف ساعة من مثل مؤمن آل فرعون، ذاك رجل يكتم إيمانه -أي مؤمن آل فرعون- وهذا رجل أعلن إيمانه, أي أبو بكر.



وثبات الصديق مع رسول الله في جميع المشاهد، والغزوات معلوم بما في ذلك طبعًا في أحد وحنين حيث فر معظم القوم، ولم يبق إلا هو والقلة.



وشرط الشجاعة طبعًا يقصد به الشجاعة في القلب، والتي تؤدي إلى قرار شجاع غير متردد، وليس بالضرورة أن يكون صاحب الرأي الشجاع هو أمهر الناس في القتال، أو هو أقواهم جسدًا، ولكن المراد أن يأخذ القرار الشجاع المناسب في الموقف، حتى وإن كان على حساب حياته، لا يشترط في الخليفة طبعًا أن يقاتل بنفسه، حتى يشترط أن يكون أمهر الناس وأقواهم جسدًا، وإن كان أبو بكر كان يقاتل بنفسه أحيانًا t، وهو خليفة إذا تطلب الأمر ذلك، وهذا ما سنراه في حروب الردة مثلما خرج في حرب عبس وذبيان بنفسه لما غَزَتَا المدينة المنورة أثناء حرب الردة..



فأبو بكر الصديق t وإن كان رجلاً نحيلاً ضعيفًا في بنيته، إلا أنه كان أشجع الصحابة في قرار حروب الردة مثلاً، وقرار فتح فارس والروم، نعم هناك من الصحابة من أقوى منه جسدًا، وأمهر منه حربًا، ورميًا، لكن هذا لا يشترط في الخليفة إنما يشترط في قائد الجيوش أو الممارس للقتال، لذلك ولى رسول الله عمرو بن العاص على أبي بكر في موقعة ذات السلاسل؛ لأنه في هذه الجزئية يتفوق عمرو بن العاص، ولكن في شمول معنى القيادة للخلافة وللدولة، لا شك أن الصديق فاق الجميع, وهناك مثل يوضح هذا الأمر:



ذكرناه في حديثنا عن إنكار الذات عند الصديق وموقفه وهو يدافع عن رسول الله حتى نال منه المشركون وتورم وجهه وكاد أن يموت، في هذا الموقف نجد أن الصديق دفعته شجاعته إلى الدفاع عن رسول الله ، لكن لم يكن له طاقة بالمشركين فضربوه، وهذا لا يطعن في شجاعته، بل على العكس فالرجل الجسيم القوي قد يحتمي وراء جسده، وقد يخفي في داخله قلبًا ضعيفًا يخشى الموت، ويطلب الحياة، بينما الرجل النحيل الضعيف إذا قدم على مهلكة واضحة كان هذا دليلاً على شجاعته، وبأسه واستهانته بالموت وطلبه للشهادة، ويقينه بالأجل، وهذا كله مما يرجى في خليفة المسلمين.



روى ابن إسحاق في سيرته وابن كثير في تفسيره وغيرهم أن أبا بكر t دخل بيت المدراس على يهود -بيت المدراس هو بيت يدرس فيه اليهود فيه التوراة- وكان دخول أبي بكر هذا في أول العهد المدني في زمن المعاهدة بين رسول الله واليهود، ولم يكن الرسول ممكنًا في المدينة بعد، وكان اليهود قوة لا يستهان بها في المدينة, سلاح، ورجال، وقلاع، وأموال، وأبو بكر الآن يدخل على اليهود في عقر دارهم في بيت المدراس، وقد اجتمع عدد ضخم من اليهود هناك وأبو بكر بمفرده، دخل أبو بكر فوجد منهم ناسًا قد اجتمعوا إلى رجل منهم يقال له: فنحاص، وكان من علمائهم وأحبارهم ومعه حبر من أحبارهم يقال له: أشيع، فقال أبو بكر لفنحاص: "ويحك، اتق الله وأسلم، فوالله إنك تعلم أن محمدًا لرسول الله، قد جاءكم بالحق من عنده، تجدونه مكتوبًا عندكم في التوراة والإنجيل".



أبو بكر أخذته الحمية للدين لما رأى فنحاص يعلم الناس التوراة المحرفة، ويبعدهم عن دين الله ، لم يفكر أنه وحيد في جحر الثعالب، كل ما فكر فيه هو دين الله ودعوة الإسلام، لكن فنحاص كان إنسانًا شريرًا قاسي القلب سيئ الأدب كعادة اليهود، قال للصديق t ما لم يتوقع الصديق أبدًا أن يسمعه من إنسان، قال: والله يا أبا بكر، ما بنا إلى الله من فقر وإنه إلينا لفقير، وما نتضرع إليه كما يتضرع إلينا، وإنا عنه أغنياء وما هو عنا بغني، ولو كان عنا غنيًّا ما استقرضنا أموالنا، كما يزعم صاحبكم، ينهاكم عن الربا ويعطيناه، ولو كان غنيًّا ما أعطانا الربا.



هذا الكلام الفاحش من فنحاص يقصد به قول الله : {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [البقرة: 245].



فيقول إن الله يستقرضنا، وسيعطينا مكانه أضعافًا كثيرة، فكأن هذا ربا وهو قد نهى عن الربا فكيف يعطيه، أمر عجيب وعقول مختلة وقلوب ميتة، المهم هذا ما قاله فنحاص، فماذا كان رد فعل الصديق t وهو يقف وحيدًا أمام جموع اليهود ها هو دين الله ينتقص أمام وجهه، وهو قد جعل لنفسه قانونًا لا ينساه: أينقص الدين وأنا حي.



فبماذا رد عليه الصديق؟



إنه لم يرد بلسانه، الصديق فاجئنا، وفاجأ فنحاص، وفاجأ اليهود بغضب شديد عظيم، ولم يشعر بنفسه إلا وهو يرفع يده فيضرب فنحاص في وجهه ضربًا شديدًا حتى سالت الدماء من وجه فنحاص، وتورم وجهه، وقال الصديق t: "والذي نفسي بيده لولا العهد الذي بيننا وبينك لضربت رأسك أي عدو الله".



وطبعًا اليهود مع كونهم كثرة إلا أنهم إن رأوا ثباتًا من الذين أمامهم دبت في قلوبهم الرهبة تملكهم الرعب والهلع، فلم يستطيعوا فعل شيء، وما تحرك منهم رجلٌ واحد، ولكن ذهب فنحاص إلى رسول الله فقال: يا محمد انظر ما صنع بي صاحبك. فقال رسول الله لأبي بكر: "مَا حَمَلَكَ علَى مَا صَنَعْتَ؟", فقال أبو بكر: يا رسول الله إن عدو الله قال قولاً عظيمًا، إنه يزعم أن الله فقير وأنهم أغنياء، فلما قال ذلك غضبت لله مما قال, وضربت وجهه, فجحد ذلك فنحاص وقال: والله يا محمد ما قلت ذلك، فأنزل الله تعالى فيما قال فنحاص ردًّا عليه وتصديقًا لأبي بكر: {لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الحَرِيقِ} [آل عمران: 181].



ونزل في أبي بكر الصديق وما بلغه في ذلك من الغضب قوله تعالى: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [آل عمران: 186].



لم يكن هذا وقت المواجهة مع اليهود، بل وقت الصبر، وسيأتي يوم المواجهة بعد ذلك.



الشاهد من القصة هو أن الصديق t لا تأخذه في الله لومة لائم، شجاع، مقدام، لا يتردد عن جهاد، ولا يفر من لقاء، ولا يتحمل أن ينتهك دين الله ولا يتحرك، هذه هي الشجاعة المرجوة في الخليفة، وهذا هو الإقدام المطلوب في قائد الأمة.


العلم والدراية بأمور الفقه والدين والحياة بصفة عامة:

إن الصديق t كان أعلم الصحابة، روى البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري t قال: خطب رسول الله فقال: "إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى خَيَّرَ عَبْدًا بَيْنَ الدُّنْيَا وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ، فَاخْتَارَ ذَلِكَ الْعَبْدُ مَا عِنْدَ اللَّهِ". فبكى أبو بكر، وقال: "نَفْدِيكَ بِآبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا". يقول أبو سعيد الخدري: فعجبنا لبكائه أن يخبر رسول الله عن عبد خير؟ فكان رسول الله هو المخير، وكان أبو بكر هو أعلمنا.



وكان الصديق علمه غزير ويفتي في وجود الرسول وكانت هذه الخاصية له وحده، وأحيانًا لعمر t وليس لغيرهما، سئل عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: من كان يفتي الناس في زمن الرسول ؟ فقال: أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، ما أعلم غيرهما.



- روى البخاري رحمه الله عن أبي قتادة t قال: لما كان يوم حنين نظرت إلى رجل من المسلمين يقاتل رجلاً من المشركين وآخر من المشركين يختله -يريد أن يأخذه على غرة- من ورائه ليقتله، فأسرعت إلى الذي يختله، فرفع يده ليضربني وأضرب يده، فقطعتها ثم أخذني، فضمني ضمًّا شديدًا، حتى تخوفت، ثم ترك، فتحلل، ودفعته، ثم قتلته، وانهزم المسلمون وانهزمت معهم -وهذا كان في أول يوم في حنين- فإذا بعمر بن الخطاب في الناس، فقلت له: ما شأن الناس؟ أي لماذا يهربون؟ قال: أمر الله.



ثم تراجع الناس إلى رسول الله -يقصد انتصر المسلمون وانهزم المشركون- وبعد الموقعة قال رسول الله : "مَنْ أَقَامَ بَيِّنَةً عَلَى قَتِيلٍ قَتَلَهُ فَلَهُ سَلَبَهُ". فقمت لألتمس بينة قتيلي، فلم أر أحدًا يشهد لي فجلست، ثم بدا لي فذكرت أمره لرسول الله فقال رجل من جلسائه: صدق وسلبه عندي فأرضه مني.



اعترف الرجل أن السلب معه، لكنه يريد أن يأخذه ويرضي أبا قتادة بشيء, هنا قام الصديق t وقال في حمية: كلا لا يعطه أصيبغ من قريش -أي طائر ضعيف- ويدع أسدًا من أسد الله يقاتل عن الله ورسوله .



يستنكر الصديق t أن يأخذ الرجل من السلب شيئًا وإن كان معه، ولكن يعطيه لأبي قتادة كاملاً, فقال النبي : صدق فأعطه, فصدق على فتوى الصديق t وهو في حضرته.



- روى البخاري ومسلم عن السيدة عائشة رضي الله عنها قالت: دخل رسول الله يوم فطر، أو أضحى، وعندي جاريتان تغنيان بغناء الحرب، والشجاعة، فاضطجع على الفراش، وحول وجهه، فدخل أبو بكر فانتهرهما وقال: مزمار الشيطان عند رسول الله , فأقبل عليه رسول الله فقال: "دَعْهُمَا يَا أَبَا بَكْرٍ، فَإِنَّ لِكُلِّ قَوْمٍ عِيدًا، وَإِنَّ عِيدَنَا هَذَا الْيَوْمُ".



قال ابن تيمية رحمه الله في الفتاوى: إن أهل السنة اتفقوا على أن أبا بكر هو أعلم الأمة، وحكي الإجماع على ذلك، ولعل سبب هذا العلم الغزير تفوقه على الصحابة وملازمته للنبي أكثر من غيره، فقد كان أدوم اجتماعًا به ليلاً ونهارًا وسفرًا وحضرًا، وما أكثر الأحاديث التي ذكر فيها رسول الله خرج وأبو بكر، أو دخل وأبو بكر، أو جلس وأبو بكر، وهكذا.



ولقد استعمله رسول الله على الحج، وهو يحتاج إلى علم غزير، واستعمله على الصلاة لكونه أعلم الناس، ولم يحفظ له قولاً يخالف فيه نصًّا ولا يعرف له غلط.



قال النووي في تهذيب الأسماء واللغات: استدل أصحابنا على عظم علمه بقوله t في الحديث الثابت في الصحيحين: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله لقاتلتهم على منعه.



واستدل أبو إسحاق بهذا وغيره على أن أبا بكر الصديق t أعلم الصحابة؛ لأنهم كلهم وقفوا عن فهم الحكم في المسألة إلا هو، ثم ظهر لهم بعد المباحثة أن قوله هو الصواب فرجعوا إليه.



- روى ابن حبان في صحيحه عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : "رَأَيْتُ كَأَنِّي أُعْطِيتُ عُسًّا -قدحًا كبيرًا- مَمْلُوءًا لَبَنًا، فَشَرِبْتُ مِنْهُ حَتَّى تَمَلأْتُ، فَرَأَيْتُهَا تَجْرِي فِي عُرُوقِي بَيْنَ الْجِلْدِ وَاللَّحْمِ، فَفَضُلَتْ مِنْهَا فَضْلَةٌ، فَأَعْطَيْتُهَا أَبَا بَكْرٍ".



قالوا: يا رسول الله هذا علم أعطاكه الله، حتى إذا تملأت منه، فضلت فضلة فأعطيتها أبا بكر, فقال : "قَدْ أَصَبْتُمْ".



وقد ظهرت عظمة علمه ودرايته، وأدلته عند موت رسول الله ، وظهر تفوقه الواضح على الصحابة، حيث بَيّن لهم موت النبي ، والآيات التي جعلت الجميع يقبل بالمصيبة، ويصبر عليها، ثم بَيّن لهم موضع دفنه وكانوا قد اختلفوا على ذلك، ثم بَيّن لهم ميراثه، وكانوا أيضًا اختلفوا على ذلك، وبَيّن لهم قتال مانعي الزكاة كما أشرنا من قبل، وَبَيّن لهم أن الخلافة في قريش، ولم يذكرها أحد قبله في السقيفة، وَبَيّن لهم وجوب إنفاذ بعث أسامة بن زيد رضي الله عنهما.



ومن كل ما سبق يتبين مدى غزارة علم الصديق t، وأنه بحق أعلم الصحابة.


حسن الرأي وحسن الإدارة والحكمة في المفاضلة بين الأمور:

فإذا قال أحد الناس أنه نعم كان عالمًا، لكن قد يفوقه آخرون في حسن الرأي، وفي استغلال العلم الذي يعلمه، فإننا نرد على ذلك بأن الصديق كان أعظم الصحابة رأيًا وأحكمهم في التصرف، وكان رسول الله دائم الاستشارة للصديق t، وكان أحيانًا يستشيره بمفرده، وأحيانًا يستشيره مع الصحابة، وكان يميل إلى رأيه دائمًا ، ظهر ذلك واضحًا مثلاً في استشارته في أمر قتال المشركين في بدر، وظهر في أمر الأسارى في بدر، وفي الحديبية لما توافقت كلماته ورأيه مع كلمات ورأي رسول الله .



- أخرج أحمد عن عبد الرحمن بن غنم، والطبراني عن البراء بن عازب أن رسول الله قال لأبي بكر وعمر: "لَوِ اجْتَمَعْتُمَا فِي مَشُورَةٍ مَا خَالَفْتُكُمَا".



وظهر من حسن الرأي للصديق في أيام خلافته ما يعجز البيان عن وصفه، وهناك تفصيلات كثيرة، ولا يخفى ما في حسن اختياره لعمر بن الخطاب خليفة من بعده ما أصلح للأمة أمرها، وقوّى من شأنها، فالرجل فعلاً مسدد الرأي وعظيم الحكمة، ومن العسير فعلاً أن تبحث له عن خطأ في رأي، أو في حكم، أو في قضية.



- روى الطبراني وأبو نعيم وغيرهما عن معاذ بن جبل t أن النبي لما أراد أن يُسَرّح معاذ إلى اليمن استشار ناسًا من أصحابه فيهم أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وطلحة، والزبير، وأسيد بن حضير، فتكلم القوم كل إنسان برأيه، فقال النبي : "مَا تَرَى يَا مُعَاذُ؟" قال معاذ: أرى ما قال أبو بكر. فقال النبي : "إِنَّ اللَّه يَكْرَه فَوْقَ سَمَائِهِ أَنْ يُخَطَّأَ أَبُو بَكْرٍ".



وروى ذلك الحارث بن أبي أسامة في مسنده بلفظ: "إِنَّ اللَّهُ يَكْرَهُ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُخَطَّأَ أَبْو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ فِي الأَرْضِ".



وأخرج ذلك الطبراني عن سهل بن سعد الساعدي t قال: قال رسول الله : "إِنَّ اللَّهَ يَكْرَهُ أَنْ يُخَطَّأَ أَبُو بَكْرٍ". وقال: رجاله ثقات.



واستدل ابن القيم رحمه الله على فضل الصديق بهذا الحديث، وأضاف أن الرسول لم يُخَطِّئ أبا بكر إلا في تعبيره لبعض الرؤيا، وإن الصديق من أعرف الصحابة بتعبير الرؤيا، وقال: إن المقصود بالتّخْطِيءِ الذي لا يرضاه الله هو تخطِيء البشر العاديين من غير رسول الله لأبي بكر.



ومع هذا العلم الغزير والرأي الحكيم إلا أنه كان دائم الاستشارة لأصحابه، ولم يكن يعتد برأيه حتى في قضايا حروب الردة، وإنفاذ بعث أسامة بن زيد رضي الله عنهما، فإنه وإن كان صاحب رأي مختلف، إلا أنه لم يفعله إلا بعد إقناع الصحابة برأيه وعلموا أن الحق معه.



أخرج أبو القاسم البغوي عن ميمون بن مهران رحمه الله قال: كان أبو بكر إذا ورد عليه الخصم -أي المختصمون في قضية- نظر في كتاب الله فإن وجد فيه ما يقضي به بينهم قضى به، وإن لم يكن في الكتاب وعلم من رسول الله في ذلك الأمر سنة فقضى بها، فإن أعياه خرج فسأل المسلمين، وقال: أتاني كذا وكذا، فهل علمتم أن رسول الله قضى في ذلك بقضاء؟



فربما اجتمع إليه النفر كلهم يذكر عن رسول الله فيه قضاء فيقول أبو بكر: الحمد الذي جعل فينا من يحفظ عن نبينا.



فإن أعياه أن يجد فيه سنة عن رسول الله جمع رءوس الناس، وخيارهم، فاستشارهم، فإن أجمع الناس أمرهم على رأي قضى به.



مما سبق يتضح أن الصديق t لم يجمع فقط صفات الخليفة، بل فاق فيها كل الصحابة وبسبق واضح، أجمع على ذلك الصحابة المعاصرون له، وأجمع على ذلك العلماء الأجلاء المتابعون للأحداث، والمحللون لها، فكان اختياره حقًّا اختيار العقل الحكيم، والرأي السديد.



إذن بالعقل والمنطق والحكمة لا بد أن يكون الصديق t هو خليفة المسلمين بعد رسول الله ، هذا الأمر مجرد من أي إشارة أو تلميح من رسول الله بخلافة الصديق، فما بالكم إن كان رسول الله قد أشار في أحاديث عدة، وفي مواقف مختلفة إلى رغبته في أن يخلفه الصديق t، وهذا لا شك يزيد من موقف الصديق قوة، ويؤيد الرأي الحكيم الذي اجتمع عليه صالحو الأمة وحكماؤها من الصحابة الكرام.


ستخلاف الصديق.. بين التصريح والتلميح



د. راغب السرجاني

روى البخاري عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله : "إِنَّ مِنْ أَمِنِّ النَّاسِ عَلَيَّ فِي صُحْبَتِهِ وَمَالِهِ أَبَا بَكْرٍ، وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلاً غَيْرَ رَبِّي لاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ، وَلَكِنْ أُخُوَّةُ الإِسْلامِ وَمَوَدَّتُهُ، لا يَبْقَيَنَّ بَابٌ إِلاَّ سُدَّ إِلاَّ بَابُ أَبِي بَكْرٍ".



قال العلماء: هذه إشارة إلى الخلافة؛ لأنه يخرج منها إلى الصلاة بالمسلمين، وقد ورد لفظ آخر يزيد الأمر وضوحًا وهو: "سُدُّوا هَذِهِ الأَبْوَابَ الشَّارِعَةَ فِي الْمَسْجِدِ إِلاَّ بَابَ أَبِي بَكْرٍ".



أخرج هذا اللفظ الترمذي عن عائشة رضي الله عنها، والطبراني عن معاوية t، والبزار عن أنس وغيرهم.



أخرج البخاري ومسلم عن جبير بن المطعم قال: أتت امرأة إلى النبي ، فأمرها أن ترجع إليه، قالت: أرأيت إن جئت، ولم أجدك. كأنها تقول الموت، قال : "إِنْ لَمْ تَجِدِينِي فَائْتِي أَبَا بَكْرٍ".



قال الشافعي: في هذا الحديث الدليل على أن الخليفة بعد رسول الله هو أبو بكر t.



وأخرج الحاكم وصححه عن أنس قال: بعثني بنو المصطلق إلى رسول الله أن سله: إلى من ندفع صدقاتنا بعدك؟ فأتيته، فسألته، فقال: "إِلَى أَبِي بَكْرٍ".



وهذا الحديث يكاد يكون صريحًا، فإن الذي يأخذ الصدقات هو الخليفة.



أخرج مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال لي رسول الله في مرضه: "ادْعِي لِي أَبَا بَكْرٍ وَأَخَاكَ حَتَّى أَكْتُبَ كِتَابًا، فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يَتَمَنَّى مُتَمَنٍّ، وَيَقُولُ قَائِلٌ: أَنَا أَوْلَى، وَيَأْبَى اللَّهُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلاَّ أَبَا بَكْرٍ".



وهذا تصريح أشد من رسول الله ، ويقول ابن تيمية رحمه الله في منهاج السنة: هذا نص جلي في استخلاف أبي بكر الصديق t.



لكنه لم يكتب كتابًا، لماذا؟!



يوضح ذلك ما جـاء في مسند الإمام أحمد عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: قال رسول الله في مرضه الذي فيه مات: "ادْعِي لِي عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ أَكْتُبُ لأَبِي بَكْرٍ كِتَابًا لا يَخْتَلِفُ عَلَيْهِ أَحَدٌ بَعْدِي. ثم قال: مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ يَخْتَلِفَ الْمُؤْمِنُونَ فِي أَبِي بَكْرٍ".



وهذا الحديث يشير إلى خلافة أبي بكر الصديق t بوضوح فهو أيضًا من دلائل نبوة رسول الله فإن المسلمون فعلاً لم يختلفوا في خلافة أبي بكر الصديق t عندما طرح اسمه للخلافة، بل إن الموافقة عليه من الصحابة كانت بإجماع لم يحدث في مكان على الأرض لا قبل ذلك ولا بعد ذلك، فلم تثبت حالات اعتراض على خلافة الصديق t، غير ما أشاعه المستشرقون، وغيرهم وسنرد عليهم لاحقًا إن شاء الله.



وأخرج مسلم عن عائشة رضي الله عنها أنها سئلت: من كان رسول الله مستخلفًا لو استخلف؟ وفي هذا تصريح إنه لم يستخلف أحد صراحة لا أبا بكر ولا غيره، قالت: أبو بكر. قيل لها: ثم مَن بعد أبي بكر؟ قالت: عمر. قيل لها: ثم مَن بعد عمر؟ قالت: أبو عبيدة بن الجراح.



وأبو عبيدة بن الجراح مات سنة 18 هجرية في ولاية عمر بن الخطاب، ولذلك لم يكن مرشحًا للخلافة عند استشهاد الفاروق t سنة 23 هجرية.



وأخرج أحمد وأبو داود وغيرهما عن سهل بن سعد t قال: كان قتال بين بني عمرو بن عوف، فبلغ النبي ، فأتاهم بعد الظهر ليصلح بينهم وقال: "يَا بِلالُ إِنْ حَضَرَتِ الصَّلاةُ وَلَمْ آتِ فَمُرْ أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ". فلما حضرت صلاة العصر، أقام بلال الصلاة، ثم أمر أبا بكر، فصلى.



ثم في رواية البخاري قال سهل بن سعد t: فجاء النبي والناس في الصلاة فتخلص -أي شَقّ الصفوف- حتى وقف في الصف الأول، فصفق الناس.



يريدون أن يلفتوا نظر الصديق t إلى وجود الرسول ، يقول سهل بن سعد t: وكان أبو بكر لا يلتفت في صلاته، فلما أكثر الناس من التصفيق، التفت فرأى رسول الله ، فأشار إليه رسول الله أن امكث مكانك.



بل إنه في رواية أن الرسول دفعه ليتقدم للإمامة.



فرفع أبو بكر الصديق يديه فحمد الله، ثم استأخر أبو بكر حتى استوى الصف، وتقدم رسول الله ، فصلى، فلما انصرف قال: "يَا أَبَا بَكْرٍ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَثْبُتَ إِذْ أَمَرْتُكَ؟" فقال أبو بكر: ما كان لابن أبي قحافة أن يصلي بين يدي رسول الله . فقال رسول الله : "مَالِي رَأَيْتُكُمْ أَكْثَرْتُمُ التَّصْفِيقَ، مَنْ رَابَهُ شَيْءٌ فِي صَلاتِهِ فَلْيُسَبِّحْ فَإِنَّهُ إِذَا سَبَّحَ الْتُفِتَ إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا التَّصْفِيقُ لِلنِّسَاءِ".



روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة t قال: سمعت رسول الله يقول: "بَيْنَمَا أَنَا نَائِمٌ رَأَيْتُنِي عَلَى قَلِيبٍ عَلَيْهَا دَلْوٌ فَنَزَعْتُ مِنْهَا مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ أَخَذَهَا ابْنُ أَبِي قِحَافَةَ، فَنَزَعَ مِنْهَا ذَنُوبًا أَوْ ذَنُوبَيْنِ، وَفِي نَزْعِهِ، وَاللَّهُ يَغْفِرُ لَهُ ضَعْفٌ، ثُمَّ أَخَذَهَا ابْنُ الْخَطَّابِ فَاسْتَحَالَتْ غَرَبًا، فَلَمْ أَرَ عَبْقَرِيًّا مِنَ النَّاسِ يَنْزِعُ نَزْعَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ حَتَّى ضَرَبَ النَّاسُ بِعَطَنٍ".



أي سقوا إبلهم، ثم آووها إلى عطنها، وهو الموقع التي تستريح فيه الإبل. فهذا مثال واضح لما جرى لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما في خلافتهما وحسن سيرتهما، وظهور آثارهما، وانتفاع الناس بهما، وكل ذلك مأخوذ من النبي ، ومن بركته، وآثار صحبته، فكان النبي هو صاحب الأمر، فقام به أكمل قيام، وقرر قواعد الإسلام ومهد أموره، وأوضح أصوله، وفروعه، ودخل الناس في دين الله أفواجًا، وأنزل الله تعالى: {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة: 3].



ثم توفى ، فخلفه أبو بكر t سنتين وأشهرًا وهو المراد بقوله : "ذَنُوبًا أَوْ ذَنُوبَيْنِ".



وحدث في خلافته قتال أهل الردة وقطع دابرهم واتساع الإسلام، ثم توفى، فخلفه عمر t فاتسع الإسلام في زمنه، وتقرر لهم من أحكامه ما لم يقع مثله.



فعبر بالقليب عن أمر المسلمين، لما فيه من الماء الذي به حياتهم وصلاحهم، وشبه أميرهم بالمستقى لهم، وسقيه لهم قيامه بمصالحهم وتدبير أمورهم، وهذا فيه من دلائل نبوته ، إذ لم يمكث أبو بكر t إلا سنتين، وأشهر قليلة، ومكث عمر فترة طويلة، ولذلك: "نَزَعَ نَزْعًا لَمْ يَنْزِعْ أَحَدٌ مِثْلَهُ".


الصديق يصلي بالناس :

نأتي إلى حديث هام، وهو من أهم الأحاديث التي أشارت إلى استخلاف أبي بكر الصديق t، وهو الحديث الذي أمر فيه رسول الله أبا بكر أن يصلي بالناس أيام موته، فظل يصلي بهم عشرة أيام والرسول ما زال حيًّا، ولكن يمنعه المرض من القيام.



روى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: لما مرض رسول الله مرضه الذي مات فيه، فحضرت الصلاة، فأذن لها، فقال: "مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ". فقالت له السيدة عائشة: إن أبا بكر رجل أسيف -أي شديد الأسف والحزن، وفي رواية: رجل رقيق- إذا قام مقامك لم يستطع أن يُسمع الناس. فأعاد رسول الله الأمر مرة ثانية، فردت عليه نفس الرد، فأعاد الرسول مصرًّا على رأيه، فطلبت السيدة عائشة من السيدة حفصة أن تعيد للمرة الثالثة فقال: "إِنَّكُنَّ صَوَاحِبُ يُوسُفَ".



وهو يقصد عائشة رضي الله عنها، ويقصد بصواحب يوسف امرأة العزيز حيث دعت النساء إلى رؤية يوسف u بفرض أن يعذروها في حبها له، لكن الظاهر من الدعوة الإكرام في الضيافة، وكذلك موقف السيدة عائشة، ثم حفصة بأمر عائشة، ظاهره أن أبا بكر رجل أسيف، لكن باطنه أن السيدة عائشة لا تريده يصلي بالناس لكيلا يتشاءم الناس به إذا وقف مكان رسول الله ، لكن رسول الله أصر على ذلك، وقال: "مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ".



فخرج أبو بكر فصلى، ثم تكمل السيدة عائشة، كما جاء في البخاري، فتقول: فوجد النبي من نفسه خفة، فخرج يُهَادى بين رجلين -العباس وعلي رضي الله عنهما- كأني أنظر رجليه تخطان من الوجع، فأراد أبو بكر أن يتأخر، فأومأ إليه النبي أن مكانك، ثم أتي به حتى جلس إلى جنبه -وفي رواية إلى يساره وهو مقام الإمام- قيل للأعمش أحد رواة الحديث: وكان النبي يصلي، وأبو بكر يصلي بصلاته، والناس يصلون بصلاة أبي بكر، فقال برأسه نعم.



يعني في هذه الصلاة بدأ أبو بكر الصلاة إمامًا، ثم لحق به رسول الله ، فأصبح هو الإمام إلى آخر الصلاة.



والذي يدعونا إلى قول أن السيدة عائشة رضي الله عنها كانت لا تريد أبا بكر أن يصلي بالناس خشية أن يتشاءم به الناس، ما جاء في كلامها هي في البخاري أيضًا حيث قالت: لقد راجعته، وما حملني على كثرة مراجعته إلا أنه لم يقع في قلبي أن يحب الناس بعده رجلاً قام مقامه أبدًا.



ولعل السيدة عائشة أرادت من هذا التردد أشياء أخرى في غاية الأهمية، منها على سبيل المثال أن تنفي عن نفسها تهمة التآمر على توصيل الصلاة، ومن ثم الخلافة إلى أبيها، وقد حدث وطعن الطاعنون فيها بعد ذلك رغم هذا التردد، ومنها أن تشهد حفصة بنت عمر رضي الله عنها على هذا الأمر، لأن عمر بلا جدال هو المرشح الثاني للخلافة، وقد يختاره الناس رغم فضل أبي بكر عليه، وذلك لقوته، وحسن إدارته، وسطوته على الكفار، والمنافقين، فهي بذلك أشهدت أولى الناس بالشهادة، حتى يعلم مراد رسول الله ، كما أنها بذلك أظهرت بما لا يدع مجالاً للشك أن الرسول لم يكن مترددًا في أمر إمامة أبي بكر الصديق، وأنه كان حاضر الذهن عندما عهد له بذلك، وأبى أن يقوم غيره في هذا المقام، وسواء كانت السيدة عائشة تقصد هذه الأمور، أو لا تقصدها، فإنه من فضل الله على هذه الأمة أن تحققت هذه الأمور بالفعل، وظهر واضحًا لعموم المسلمين أن الرسول لا يريد للصلاة إلا أبا بكر الصديق t.



هذا الموقف من أقوى الأدلة على رغبة رسول الله في استخلاف أبي بكر الصديق t، واستنبط منه ذلك علي بن أبي طالب t لما قال: رضيه رسول الله لديننا فرضيناه لدنيانا.



كما روى الحاكم في مستدركه؛ أي رضيه للصلاة فرضيناه للخلافة.



أيضًا استنبط عمر بن الخطاب t رغبة رسول الله في خلافة الصديق وذلك يوم السقيفة، يوم قال للأنصار: ألستم تعلمون أن رسول الله قدم أبا بكر للصلاة؟ قالوا: بلى. قال: فأيكم تطيب نفسه أن يتقدم من قدمه رسول الله ؟ قالوا: لا أحد، معاذ الله أن نتقدم على أبي بكر. روى ذلك النسائي والحاكم.



وظل أبو بكر يصلي بالناس طوال فترة مرض الرسول ، ولم يخرج الرسول للصلاة مرة أخرى، فقد أقعده المرض عن ذلك.



وكان رسول الله مصرًّا على أن لا يشارك أبا بكر أحد من المسلمين في الإمامة كي لا يختلط الأمر على المسلمين بعد ذلك.



يروي أبو داود بسند صحيح عن عبد الله بن زمعة t قال: لما اسْتُعِزّ برسول الله -أي اشتد به المرض- وأنا عنده في نفر من المسلمين، دعاه بلال إلى الصلاة فقال: "مُرُوا مَنْ يُصَلِّي بِالنَّاسِ".



وهنا لم يصرح الرسول باسم أبي بكر أو غيره، يقول: فخرجت، فإذا عمر في الناس، وكان أبو بكر غائبًا، فقلت: يا عمر قم فصل بالناس.



وواضح أن عبد الله بن زمعة t، وغيره من الصحابة كانوا يعلمون أن الذي يجب أن يصلي بهم هو أبو بكر، لكنه لم يكن موجودًا، فليكن عمر، يقول عبد الله بن زمعة t: فتقدم عمر فكبر، فلما سمع رسول الله صوته، وكان عمر رجلاً مجهرًا، قال رسول الله : "فَأَيْنَ أَبُو بَكْرٍ، يَأْبَى اللَّهُ ذَلِكَ وَالْمُسْلِمُونَ، يَأْبَى اللَّهُ ذَلِكَ وَالْمُسْلِمُونَ".



فبعث إلى أبي بكر، فجاء بعد أن صلى عمر تلك الصلاة، فصلى بالناس.



وفي مسند الإمام أحمد رحمه الله زيادة حيث جاء عمر بن الخطاب t إلى عبد الله بن زمعة t وقال له -بعد الصلاة لما سمع غضب رسول الله : ويحك ماذا صنعت بي يا ابن زمعة، والله ما ظننت حين أمرتني إلا أن رسول الله أمرك بذلك، ولولا ذلك ما صليت بالناس. فقال عبد الله بن زمعة t: والله ما أمرني رسول الله ، ولكن حين لم أر أبا بكر رأيتك أحق من حضر بالصلاة.



هذا الغضب من رسول الله يؤكد أنه يريد أبا بكر لذاته، وإلا فالصلاة صحيحة، وعمر من أفاضل الرجال، بل هو أفضلهم بعد أبي بكر الصديق، ولكن في هذا المقام أراد الرسول أن لا يلتبس الأمر أبدًا على المسلمين بعد وفاته، فلا يختلفون على الصديق t.


تعليقات مهمة على إمامة الصديق للناس في الصلاة :
الرشيد يستفسر من ابن عياش:

ومن ألطف التعليقات على قضية إمامة أبي بكر الصديق t للمسلمين في أثناء مرض رسول الله ما رواه ابن عدي رحمه الله عن أبي بكر بن عياش، وهو من العلماء في زمان الخليفة العباسي هارون الرشيد رحمه الله، قال: قال لي الرشيد: يا أبا بكر كيف استخلف الناس أبا بكر الصديق؟



يبدو إنه كانت هناك بعض الأمور المبهمة، أو الغامضة في ذهن الرشيد، فيريد أن يتأكد، فقال أبو بكر بن عياش رحمه الله: يا أمير المؤمنين، سكت الله، وسكت رسوله، وسكت المؤمنون. قال الرشيد: والله ما زدتني إلا غمًّا. يعني لم أفهم ما تقصد، فقال أبو بكر بن عياش: يا أمير المؤمنين مرض النبي ثمانية أيام، فدخل عليه بلال فقال: يا رسول الله من يصلي بالناس؟ قال: "مُرْ أَبَا بَكْرٍ يُصَلِّي بِالنَّاسِ". فصلى أبو بكر بالناس ثمانية أيام، والوحي ينزل، فسكت رسول الله لسكوت الله.



أي أنه لو أن الله يريد غير أبي بكر لأخبر رسوله عن طريق الوحي، ولكن اختيار الرسول لأبي بكر كان اختيارًا يرضي الله . وسكت المؤمنون لسكوت رسول الله . فأعجب ذلك الرشيد رحمه الله وقال: بارك الله فيك.


أبو الحسن الأشعري يعلق أيضًا :

من التعليقات اللطيفة ما علق به أبو الحسن الأشعري رحمه الله على مسألة تقديم رسول الله لأبي بكر في الصلاة حيث قال: وتقديمه له، أي تقديم أبي بكر في الصلاة، أمر معلوم بالضرورة من دين الإسلام؛ لأن الصحابة جميعًا علموا هذا الأمر، وقبلوا أبا بكر إمامًا لهم وتواتر ذلك عنهم، ثم قال الأشعري رحمه الله: وتقديمه له دليل على أنه أعلم الصحابة، وأقرؤهم، لما ثبت في الحديث المتفق عليه صحته بين العلماء: "يَؤُمُّ الْقَوْمُ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ، فَإِنْ كَانُوا فِي الْقِرَاءَةِ سَوَاءً، فَأَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ، فَإِنْ كَانُوا فِي السُّنَّةِ سَوَاءً، فَأَقْدَمُهُمْ هِجْرَةً، فَإِنْ كَانُوا فِي الْهِجْرَةِ سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ سِلْمًا".



أي إسلامًا، هذا لفظ الإمام مسلم عن أبي مسعود الأنصاري t وفي رواية أخرى: "أَكْبَرْهُمْ سِنًّا بَدَلاً مِنْ أَقْدَمُهُمُ سِلْمًا".



يعلق ابن كثير رحمه الله على كلام الأشعري رحمه الله بقوله: وهذا كلام من الأشعري رحمه الله مما ينبغي أن يكتب بماء الذهب، ثم قد اجتمعت هذه الصفات كلها في الصديق t وأرضاه.



وهناك تعليقات من بعض الصحابة، والعلماء على استخلاف الصديق t ومنها:



رأي عبد الله بن مسعود t، وقبل أن نذكر رأيه نقدم له بحديث لرسول الله : روى الترمذي وحسنه كذلك الإمام أحمد، وصححه الألباني،عن حذيفة t قال: كنا جلوسًا عند النبي ، فقال: "إِنِّي لا أَدْرِي مَا قَدْرُ بَقَائِي فِيكُمْ، فَاقْتَدُوا بِاللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي -وأشار إلى أبي بكر وعمر- وَاهْتَدُوا بِهَدْيِ عَمَّارٍ، وَمَا حَدَّثَكُمُ ابْنُ مَسْعُودٍ فَصَدِّقُوهُ".



ماذا قال ابن مسعود t: قال فيما رواه الحاكم وصححه: ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن، وما رآه المسلمون سيئًا، فهو عند الله سيئ، وقد رأى الصحابة جميعًا أن يستخلفوا أبا بكر.



أي أن استنباط ابن مسعود أن هذا ليس فقط حسن عند المسلمين، بل حسن كذلك عند الله .



- وأخرج البيهقي عن الشافعي رحمه الله أنه قال: أجمع الناس على خلافة أبي بكر الصديق t، وذلك أنه اضطر الناس بعد وفاة رسول الله -أي اضطروا إلى أن يجعلوا عليهم قائدًا بعد رسول الله - فلم يجدوا تحت أديم السماء خيرًا من أبي بكر، فولوه رقابهم.



- يقول معاوية بن قرة رحمه الله وهو من التابعين: ما كان أصحاب رسول الله يشكون أن أبا بكر خليفة رسول الله ، وما كانوا يسمونه إلا خليفة رسول الله ، وما كانوا يجتمعون على خطأ ولا ضلال.



- قال الخطيب البغدادي رحمه الله: أجمع المهاجرون والأنصار على خلافة أبي بكر t، وقالوا له: يا خليفة رسول الله ، ولم يسم أحد بعده خليفة.


خلافة الصديق في القرآن :

بعض العلماء استنبطوا من بعض آيات القرآن الكريم أحقية أبي بكر الصديق بالخلافة واستنبطوا أن خلافته كانت خلافة حق:



- علق أبو بكر بن عياش رحمه الله على الآية الكريمة: {لِلْفُقَرَاءِ المُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحشر: 8].



قال أبو بكر بن عياش رحمه الله: من سماه الله صادقًا ليس يكذب، والمهاجرون قالوا: يا خليفة رسول الله ، فهو خليفة حقًّا لا يكذبوا.



علق ابن كثير رحمه الله على هذا الاستنباط فقال: استنباط حسن.



- وقال الإمام الرازي رحمه الله في تفسيره للفاتحة أن قوله : {اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 6،7].

فيه إشارة إلى اتباع الصديق t، ومن ثَم استخلافه، قال: إن الله يأمرنا أن نطلب الهداية إلى طريق الذين أنعم عليهم الله، ومن هم الذين أنعم الله عليهم؟



فسرها ربنا في سورة النساء يقول: {وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69].



فهذه هي الأنواع التي أنعم الله عليها، والتي أمرنا الله بطلب الهداية إلى طريقها، ولم يعد هناك أنبياء بعد رسول الله ، فلزم أن نكون مع الصديقين.



ويقول الرازي: إنه لا شك أن الصديق t هو رأس الصديقين ورئيسهم، ومن ثَم فإننا أمرنا أن نتبعه بعد رسول الله .



- وقال الحسن البصري رحمه الله فيما رواه البيهقي في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى المُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة: 54].



قال الحسن البصري: هو والله أبو بكر وأصحابه، لما ارتدت العرب جاهدهم أبو بكر وأصحابه حتى ردوهم إلى الإسلام.



- وقال قتادة تعليقًا على نفس الآية: كنا نتحدث أن هذه الآية نزلت في أبي بكر وأصحابه.



- وهناك آية علق عليها كثير من العلماء تعليقات كلها تشير إلى خلافة الصديق t، هذه الآية في سورة الفتح هي: {قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الفتح: 16].



فالقوم الذين تخلفوا عن رسول الله وهو ذاهب إلى مكة في عام الحديبية نزل فيهم هذا القول من الله ، يقول فيه الله لهم: ستدعون إلى قوم أولى بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون، فالله سوف يعطيهم فرصة أخرى للخروج للجهاد، بعد تخلفهم في الأمر الأول، وبعد نفاقهم، وقولهم شغلتنا أموالنا وأهلونا، إذن سيدعى هؤلاء إلى قتال شديد سيأتي بعد زمن الحديبية.



من الذي يدعوهم إلى هذا القتال؟



قال القرطبي رحمه الله والزمخشري في الكشاف وأبو الحسن الأشعري رحمه الله: إن الداعي لهم ليس النبي ، وأن القوم الذين سيدعون لقتالهم ليسوا هوازن وثقيف كما قال بعض المفسرين، والذين قاتلهم رسول الله في حنين والطائف، لماذا؟



لأن الله أمر رسوله الكريم أن يقول للمنافقين المخالفين الذين لم يشتركوا معه في القتال: {فَإِنْ رَجَعَكَ اللهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الخَالِفِينَ} [التوبة: 83].



إذن أُمر رسول الله أن لا يدعوا هؤلاء المخلفين إلى القتال، فمن هم يا ترى القوم ألو البأس الشديد، هم بنو حنيفة أهل اليمامة، وأتباع مسليمة الكذاب، ومن ثم فإن الذي دعا إلى قتالهم هو الصديق t، فلزم أن يكون هو الخليفة الصحيح في هذا الوقت، يقول رافع بن خديج t إننا كنا نقرأ هذه الآية: {سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} [الفتح: 16].



فلا نعلم من هم حتى دعا أبو بكر إلى قتال بني حنيفة، فعلمنا أنهم هم، قال ابن أبي حاتم وابن قتيبة رحمهما الله: هذه الآية حجة على خلافة الصديق، لأنه الذي دعا إلى قتالهم، وقال أبو الحسن الأشعري رحمه الله: سمعت أبا العباس بن شريح رحمه الله يقول: خلافة الصديق t في القرآن من هذه الآية، لأن أهل العلم أجمعوا على أنه لم يكن بعد نزولها قتال دعوا إليه إلا دعاء أبي بكر للناس إلى قتال أهل الردة، ومن منع الزكاة، فدل ذلك على وجوب خلافة أبي بكر وافتراض طاعته، إذ أخبر الله أن المتولي عن ذلك يعذب عذابًا أليمًا.



أما عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، وعطاء بن أبي رباح، ومجاهد، وابن أبي ليلى، وعطاء الخرساني رحمهم الله جميعًا فقد قالوا: إن القوم أولي البأس الشديد المقصودين في الآية هم فارس، ومن المعروف أيضًا أن الذي دعا لقتالهم وفتح فارس هو الصديق t، فكما يقول ابن كثير رحمه الله فهي أيضًا دالة على خلافة الصديق t.



أما كعب والحسن رحمهما الله فقالا: إن المقصود بالقوم أولي البأس الشديد: الروم، وسبحان الله، أيضًا الذي دعا إلى قتال الروم هو الصديق t.



فعلى أي تفسير لهؤلاء القوم فالصديق هو الخليفة المقصود، فأي شرف، وأي فضل، وأي قدر، الزعيم قد يخلد ذكراه، ويمجد تاريخه بالدعوة إلى حرب قوم أولي بأس شديد بني حنيفة، أو فارس أو الروم، أما أن يدعوا إليهم جميعًا فهذا هو المجد بعينه، وهذا هو الشرف بعينه، ولا يكون هذا إلا الصديق t وأرضاه.



- آية أخرى من آيات الله قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره إنها منطبقة على خلافة الصديق t، وعلى خلافة الثلاثة من بعده، يقول الله في سورة النور: {وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ} [النور: 55].



يقول ابن كثير رحمه الله: فلما وجدت هذه الصفة من الاستخلاف، والتمكين في أمر أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، دل ذلك على أن خلافتهم حق.



- وبعد فهذه مجموعة من الأحاديث، والآيات وهناك غيرها من الأحاديث التي أعرضت عنها إما لتكرارها أو لضعفها، كل هذه الأحاديث والآيات تشير إما قريب أو بعيد إلى رغبة رسول الله في استخلاف الصديق t.


موقف العلماء من هذه الأحاديث والآيات :

ينقسم إلى نوعين ليس بينهما خلاف كبير، الكل يتفق أن الرسول كان يرغب في خلافة الصديق t، ولكن الخلاف بينهما في هل كان ذلك بالنص الجلي الصريح، أم بالنص الخفي والإشارة:



- فمن العلماء مثل ابن حزم الظاهري رحمه الله فقد قال: إن رسول الله استخلف أبا بكر بالنص الصريح الجلي، واستشهد بأحاديث مثل حديث المرأة الذي قال لها رسول الله : "إِنْ لَمْ تَجِدِينِي فَائْتِي أَبَا بَكْرٍ".



وبقوله لعائشة: "ادْعِي لِي أَبَا بَكْرٍ وَأَخَاكِ حَتَّى أَكْتُبَ كِتَابًا فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يَتَمَنَّى مُتَمَنٍّ وَيَقُول قَائِلٌ: أَنَا أَوْلَى وَيَأْبَى اللَّهُ وَالْمُؤمِنُونَ إِلاَّ أَبَا بَكْرٍ".



وبحديث الرؤيا التي على القليب ورؤيا الأنبياء حق، وغير ذلك من الأحاديث.



- أما الطائفة الأخرى من العلماء فقد قالت أن استخلاف الرسول لأبي بكر الصديق كان بالإشارة والنص الخفي، وليس صريحًا، ينسب هذا القول مثلاً إلى الحسن البصري، وأحمد بن حنبل، وابن تيمية، وطائفة كبيرة من أهل الحديث، وهذا هو الرأي الغالب، فرسول الله كان من الممكن أن يصرح فيقول إذا مت فليكن أبو بكر من بعدي، هكذا بوضوح، والأمر ليس أمرًا ثانويًّا في حياة المسلمين حتى يتعمد رسول الله التصريح بهذا الأسلوب الغير المباشر، إذن كانت هناك حكمة نبوية من أن الرسول لم يصرح باستخلاف، وترك الأمر لمجرد الإشارة، وكان هناك رضا من الله على هذا التلميح دون التصريح لأن كل أمور الرسول كانت عن طريق الوحي فكيف بهذا الأمر الخطير..



يؤكد هذا المعنى من أن الرسول لم يستخلف تصريحًا، ما جاء في كلام عمر بن الخطاب t عند وفاته، فيما رواه البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما حيث قال عمر: إن أستخلف فقد استخلف من هو خير مني -يعني أبا بكر- وإن أترك فقد ترك من هو خير مني -يعني رسول الله .



ويؤكد على هذا أيضًا ما رواه البخاري ومسلم عن السيدة عائشة رضي الله عنها في أنها سئلت: من كان رسول الله مستخلفًا لو استخلف؟ إذن هو لم يستخلف.



فإذن كان الحق أنه لم يستخلف، فلماذا لم يصرح بالاستخلاف واكتفى بالإشارة فقط؟



لماذا لم يأمر رسول الله المسلمين أمرًا مباشرًا بتعيين أبي بكر خليفة؟


الحكمة في ترك المسلمين دون تصريح باسم الخليفة :

بالطبع فإن الحكمة الإلهية الكاملة وراء هذا الحدث لا يعلمها إلا الله ، ولكننا نجتهد في فهم هذا الموقف وفق المعطيات التي معنا، والذي يبدو لي:



1- أن الرسول لم يرد أن يصرح بذلك حتى يترك المسلمون يدبرون أمرهم في غيابه هو ، فالمسلمون بعد هذه اللحظة التي فارق فيها رسول الله الحياة سيكون عليهم أن يديروا شئونهم بأنفسهم، لا يتلقون وحيًا، وليس لهم عصمة، ماذا يحدث لو اختار لهم رسول الله الخليفة الآن بوضوح؟ لكانت النتيجة إنه لن يكون هناك الحوار الذي دار وحدث في سقيفة بني ساعدة، وما فائدة هذا الحوار؟



لقد تعلم المسلمون في هذا الوقت وعلموا المسلمين من بعدهم كيف يتم اختيار الخليفة؟



وكيف يكون أسلوب الحوار في مثل هذه القضايا؟



وكيف يمكن قبول وجهات النظر المختلفة؟



وما هي الحدود التي لا ينبغي تجاوزها؟



وما هي حدود الشرع؟ ما الذي يجب أن تكون عليه النفوس حتى يتم اختيار الخليفة بطريقة سليمة؟



وما هي صفات الخليفة المنتخب؟



وما هي مقومات الصديق التي جعلته يتقدم غيره؟



ماذا يحدث لو أن الرسول اختار لهم أبو بكر بالتصريح؟



كان أبو بكر سيتولى أمور المسلمين إلى أجل ثم يموت، فماذا يفعل المسلمون بعد موته؟



وكيف يختارون الخليفة الجديد وليس بين أيديهم رسول يختار لهم؟



لقد اكتمل نمو الصحابة رضوان الله عليهم، وحان وقت الفطام عن الوحي والعصمة، وآن لهم أن ينطلقوا في الحياة بالكتاب والسنة، دون رسول حي بين أظهرهم، إذًا كان سيكتب على المسلمين أن يختاروا في يوم من الأيام خليفة بمفردهم، فليكن هذا الجيل الراقي الرائع النقي التقي الورع العاقل الحكيم من الصحابة هو الذي يختار، حتى يعطي القدرة والمثل لمن بعدهم، هذا أول ما يبدو لي في هذا الأمر.



ثم أمر آخر ألاحظه:



2- هو أنه لو فرض رسول الله أبا بكر على المسلمين فرضًا بالتصريح، لكان لزامًا عليهم أن يقبلوا به حتى وإن لم ترضَ نفوس بعض المسلمين به، فماذا ستكون النتيجة؟



في زمان الرسول كان القوم يخضعون عند الاختلاف إليه، وذلك لمكانته العظيمة في قلب الناس، ولعلمهم بالوحي الذي ينزل عليه، ولليقين الذي في قلوبهم أنه معصوم ، أما الآن فإذا تولى أمورهم رجل منهم وليس برسول فمن الطبيعي جدًّا أن يحدث اختلاف في الرأي لا يرد بوحي ولا عصمة، وهنا سيقول الناس هو رجل -أي الخليفة- ونحن رجال، وله رأي ولنا آراء، ففرض رجل على المسلمين دون اختيارهم سيسبب ضعفًا في مكانته لا محالة، أما الخليفة الذي ينتخب انتخابًا حقيقيًّا من شعبه وأتباعه فإنه يعطي قوة لا مثيل لها، فالجميع يرضى له والجميع يستمع لرأيه، بل الجميع سيبحث عن المبررات لأفعاله وسيفترض فيه حسن النوايا عند اختلاف الآراء والتباس الأمور، بل قد يفتديه الجميع بأرواحهم، وكيف لا وهم الذين أتوا به حقيقة إلى هذا المكان.



إذن فالانتخاب الحقيقي الذي قام به المسلمون لأبي بكر أعطى له قوة حقيقية، وقدرة واضحة على إدارة أمور البلاد، وأعطى له شرعية ما كانت لتكسر لحدث طارئ، أو ظرف عابر مهما تعاظم هذا الحدث، ومهما تغيرت الظرف، وقد شاهدنا هذا بأعيننا بعد ذلك في حياة الصديق t كخليفة، فكم من الأمور التي فعلها والقرارات التي أخذها كانت من الممكن أن لا تلقى هوى في قلوب الناس، أو اقتناعًا في عقولهم، ولكن لكونهم اختاروه على علم، وعلى بصيرة، وثقة في إمكانياته، وإيمانًا بقدراته، فإنهم كانوا ينصاعون لرأيه دون ثورة، أو ضجر، أو تقصير في الاتباع.



3- الأمر الثالث الهام في كون رسول الله لم يفرض أبا بكر فرضًا على الأمة: أنه يريد أن يرسي قاعدة الانتخاب بين المسلمين، فإنه لو عين خليفة تصريحًا من ورائه، لكانت سنة قد تطبق على عموم الأمة بعد ذلك، ولا يبقى أمام كل جيل إلا أن يقبل باستخلاف الخليفة مهما كان، ورسول الله يعلم أن هذا الجيل الذي معه هو خير القرون وإنه سيأتي أجيال كثيرة أقل منه في القدر والكفاءة، فإن جعل الأمر في يد رجل واحد يستخلف رجلاً آخر لدخلت عوامل الهوى وعوامل عدم الدراية في الاختيار، ولدفعت الأمة بكاملها الثمن، فهو بعدم استخلافه على العكس من ذلك، قد أرسى سنة أن يجتمع المسلمون ويختارون من بينهم من يصلح لهذا الأمر..



وقد يقول قائل إن أبا بكر t قد استخلف عمر بن الخطاب دون انتخاب، فالرد على ذلك أنه لن يوجد في أجيال المسلمين من هو في قدر عمر بن الخطاب t، وأن أبا بكر الصديق t قد استشار كبار الصحابة في هذا الأمر، ولم يكن هناك من بعد أبي بكر مثل عمر بن الخطاب t، كما أنه كانت رغبة واضحة من رسول الله في أن يكون عمر بعد أبي بكر في الخلافة فما أكثر الأحاديث التي رتبت الخليفتين العظيمين بهذا الترتيب، وليس المجال هنا لذكرها، ثم -وهذا هو الأهم- لم تصح خلافة عمر، إلا بعد أن بايعه الناس بعد وفاة الصديق رضي الله عنهما، ولو لم يبايعه الناس لوجب اختيار خليفة آخـر يرضى عنه الناس.



ثم مرت الأيام، وقربت منية عمر بن الخطاب t، فقرر أن يجعل الأمر بالانتخاب بين المسلمين، وما أراد أن يستخلف مع علم الجميع أن عثمان بن عفان t أفضل الصحابة، بعد العملاقين الكبيرين أبي بكر وعمر، ومع ورود أحاديث كثيرة ترتب عثمان بعد أبي بكر وعمر مباشرة، ومع كون عثمان يزن أمة المسلمين إذا خلا منها رسول الله وأبو بكر وعمر، مع كل هذا إلا إن عمر بن الخطاب أراد أن يرسي قاعدة الانتخاب، وكان يعلم أن الأمر سيئول إلى عثمان بن عفان لعظم قدره بين الصحابة.



وبالفعل هذا ما حدث، وعندما مر عبد الرحمن بن عوف t على كل أهل المدينة يرى من يختارون عثمان أم علي، بعد انسحاب بقية الستة المرشحين للخلافة، وجد إجماعًا من عامة المسلمين إلا قليل القليل على اختيار عثمان بن عفان t خليفة للمسلمين، المهم أن القاعدة أرسيت وعلمت بذلك طرق اختيار الخليفة في الإسلام، فإما عن طريق الانتخاب، وهذا أفضل، وإما عن طريق الاستخلاف، وهذا جائز، وإن كان لا يكتمل إلا بموافقة الناس.



إذن هذه أمور ثلاثة ذكرناها لعلها تشير إلى حكمة رسول الله في عدم التصريح بخلافة أبي بكر الصديق، وترك ذلك للمسلمين والاكتفاء بالإشارة، هذه الأمور بإيجاز هي:



- إعطاء الفرصة للمسلمين؛ كي يديروا حياتهم بمفردهم دون وحي، واستغلال وجود أفضل جيل على الأرض؛ ليقوم بهذه المهمة لإعطاء القدوة لمن بعدهم.



- إعطاء القوة والشرعية للخليفة المنتخب من قبل شعب المسلمين، بدلاً من فرضه على الناس دون انتخاب حقيقي.



- إرساء قاعدة الانتخاب، وتجنب قاعدة الاستخلاف قدر المستطاع، حيث إن الهوى قد يتحكم بها، وبالذات عند اختفاء الأفذاذ من الرجال أمثال أبي بكر وعمر وعثمان.



ومع ذلك فإن رسول الله من رحمته بالأمة، فهو يريد لها ما يصلح شأنها، وبالذات بعد مصيبة وفاته ، وهو يعلم أن خير الأمة سيكون في استخلاف الصديق t وأرضاه، فأراد أن يقوم بأمر وسط يمزج فيه بين الاستخلاف وعدم الاستخلاف، ويقدم أمرًا يشبه الاقتراح، وليس الفرض، وبذلك تتحقق قاعدة عدم الاستخلاف، وترسى قاعدة الانتخاب، وفي نفس الوقت ينتخب من أراده ، وفي هذا حكمة متناهية وصدق الله العظيم إذ يقول: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} [النَّجم: 3،4].



قام الرسول بثلاث خطوات رئيسية لضمان هذا الاستخلاف دون تصريح:


خطوات الرسول لضمان استخلاف الصديق :

أولاً: قال : "الأَئِمَّةُ فِي قُرَيْشٍ".



وبذلك ضَيّق إلى حد كبير قاعدة الانتخاب، وعلم أنه لو كان الأمر في قريش فهو، ولا بد سيئول إلى أبي بكر الصديق t لمكانته.



ثانيًا: أراد التأكيد على استثناء الأنصار؛ لأنه قد يخطر ببالهم كما ذكرنا من قبل أنهم أصحاب البلد، والذين نصروا الدين وأقاموا الدولة، فيجب أن يكون الخليفة منهم، فأراد أن يؤكد على استثنائهم، ولكن بأسلوب حكيم لا يجرح شعورهم، ولا يقلل قيمتهم، فقام بحكمة رائعة يوصي الناس بالأنصار، ولو كانوا خلفاء ما احتاجوا وصاية، ولكنه يشير إلى أن الخلافة لن تكون فيهم، فيجب على ولي الأمر أن يستوصي بالأنصار خيرًا، وأكثر من مثل هذه الأحاديث وخاصة عندما قربت منيته ، وكان في مرض الموت حتى يؤكد على هذه الحقيقة.



مثال ذلك ما رواه البخاري عن أنس بن مالك t قال: مر أبو بكر والعباس رضي الله عنهما بمجلس من مجالس الأنصار y وهم يبكون، فقال: ما يبكيكم؟ قالوا: ذكرنا مجلس النبي منا.



وكان هذا في مرض الرسول الأخير، فهم يبكون لإحساسهم أنهم سيفارقون رسول الله . فدخل على النبي فأخبره بذلك، قال: فخرج النبي وقد عصب على رأسه حاشية برد، قال: فصعد المنبر، ولم يصعده بعد ذلك اليوم، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: "أُوصِيكُمْ بِالأَنْصَارِ، فَإِنَّهُمْ كَرِشِي وَعَيْبَتِي".



يقصد أن الأنصار بطانتي وموضع سري.



"وَقَدْ قَضَوُا الَّذِي عَلَيْهِمْ، وَبَقِيَ الَّذِي لَهُمْ، فَاقْبَلُوا مِنْ مُحْسِنِهِمْ وَتَجَاوَزُوا عَنْ مُسِيئِهِمْ".



والأنصار قضوا ما عليهم: وهو ما كان في بيعة العقبة الثانية، كما يقول ابن حجر العسقلاني في فتح الباري، وهو إيواء رسول الله ، ونصرته.



وبقي الذي لهم: وهو الجنة، فما هي إلا أيام قليلة في الدنيا ويلحقون برسول الله في الجنة، فعلى من يتولى أمور المسلمين أن يقبل محسنهم ويتجاوز عن مسيئهم.



أيضًا في نفس هذا المعنى ما رواه البخاري عن ابن عباس t قال: خرج رسول الله في مرضه الذي مات فيه بملحفة قد عصب بعصابة دسماء (أي شد رأسه بعصابة لونها كلون الدسم أي الدهن)، حتى جلس على المنبر، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: "أَمَّا بَعْدُ، أَيُّهَا النَّاسُ فَإِنَّ النَّاسَ يَكْثُرُونَ، وَتَقِلُّ الأَنْصَارُ، حَتَّى يَكُونُوا كَالْمِلْحِ فِي الطَّعَامِ".



وانظر إلى روعة التشبيه، فهم سيقلون جدًّا ليصبحوا كنسبة الملح في الطعام ومع ذلك، فإن الملح شيء لا غنى عنه في الطعام.



ثم يكمل فيقول: "فَمَنْ وَلِيَ مِنْكُمْ شَيْئًا يَضُرُّ فِيهِ قَوْمًا، وَيَنْفَعُ فِيهِ آخَرِينَ، فَلْيَقْبَلْ مِنْ مُحْسِنِهِمْ، وَيَتَجَاوَزُ عَنْ مُسِيئِهِمْ".



وهذه إشارة واضحة بأن الذي سيلي أمور المسلمين ليس من الأنصار.



يقول ابن عباس رضي الله عنهما: فكان آخر مجلس جلس به النبي .



ثالثًا: أشار في أحاديث عديدة، كما ذكرنا لرغبته في استخلاف الصديق t، وبذلك مهد الطريق للمسلمين ليختاروا عن طريق الانتخاب أبا بكر الصديق t.


وقفة وسؤال:

هل كانت كل هذه الإشارات، والمواقف، والأحاديث من رسول الله فقط لحفظ حق الصديق t في الخلافة؟ أم إن مصلحة المسلمين الفعلية تقتضي في المقام الأول أن يكون الصديق هو الخليفة؟



الحقيقة أن الأمرين معًا كانا مقصودين:



الأمر الأول: هذا حق الصديق t لفضله، ومكانته، وقدراته، وكفاءاته، ولا يجب أن يولى غيره في وجوده.



والأمر الثاني الهام جدًّا: أن مصلحة المسلمين الفعلية كانت في استخلاف الصديق t دون غيره.


خلافة الصديق كانت رحمة بالأمة :

كان اختيار الصديق خليفة بعد رسول الله رحمة بالأمة ومصلحة كبرى لها، وذلك للأسباب الآتية:



أولاً: تحتاج الأمة أن تسير في نظام هو أشبه ما يكون بحياة الرسول ، فالتغيير في نسق الحياة، والإدارة، والمعاملة، قد يؤدي بالأمة إلى هاوية خطيرة، فحتى إن كان الشرع يسمح بآراء متعددة في قضية معينة، فإن الانتقال من حياة معينة إلى حياة مختلفة يسبب الاضطراب عند الناس، والتخبط، وعدم توقع خطوات المستقبل.



والصديق t لطول صحبته لرسول اله ، ولقدم العشرة حتى قبل نزول الرسالة على الرسول ، ومرورًا بفترة مكة، والهجرة، وكل المشاهد، والغزوات في المدينة، كان يعرف كل دقائق حياة الرسول ، وكان كثير الدخول عليه في بيته، وخاصة وأن ابنته السيدة عائشة رضي الله عنها هي إحدى زوجات رسول الله ، وكان حب الرسول سببًا في كثرة اللقاءات بينهما، حتى إنه كثيرًا ما كان يذهب لرسول الله بعد العِشاء يتبادلان الرأي والمشورة في أمور كثيرة، هذا الاختلاط الكبير برسول الله أطلع الصديق t على أمور كثيرة ما اطلع عليها غيره، ولذلك فقد كان يعلم ما لا يعلمه كثير من الصحابة الأجلاء.



فوق هذا الاطلاع على حياة الرسول ، فإن الصديق تميز برغبة شديدة في اتباع خطوات الرسول ، واقتفاء آثاره قدر الوسع، وقد ذكرنا ذلك بالتفصيل قبل ذلك.



إذن هو امتلك الرغبة، والعلم الذي يؤيد هذه الرغبة، ومن ثَم كانت حياته t امتدادًا طبيعيًّا جدًّا لحياة الرسول ، وما شعر المسلمون بتغير ملموس في أساليب الإدارة، والمعاملة، والاختيار بين الآراء، وما أحسب أن الرسول لو كان حيًّا لفعل أو رأى غير ما فعل أو رأى الصديق t، كيف لا وهو الذي قال : "اقْتَدُوا بِالَّذِينَ مِنْ بَعْدِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ. وقال: عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ مِنْ بَعْدِي".



فهو كما أطلعه الوحي يعلم أن الخلفاء الراشدين لن يغيروا بعده، وسيختارون من الرأي والفعل ما يرضي الله ورسوله.



ثانيًا: كان اختيار الصديق t خليفة للأمة فيه مصلحة أخرى كبيرة، وهي أن الأمة قد خرجت من مصيبة هائلة، وكارثة مروعة، وهي مصيبة وفاة الرسول ، وكارثة انقطاع الوحي، وتحتاج في هذه المصيبة إلى الرحمة، لا الشدة، وإلى الرفق، لا العنف، ومَن أرحم بالأمة بعد رسول الله مِن الصديق t؟



لا نقول نحن ذلك، بل قاله الرسول الكريم ، روى الإمام أحمد والترمذي، وأبو يعلى عن أنس بن مالك t قال: قال رسول الله : "أَرْحَمُ أُمَّتِي بِأُمَّتِي أَبُو بَكْرٍ".



فرحمة الله بهذه الأمة اقتضت أن يتولى أمورها أرحمها، وهو الصديق t.



ثالثًا: كانت مصلحة المسلمين تقتضي أيضًا أن يتولى أمورها أشد الناس ثباتًا، وأرسخهم قدمًا، فمن المؤكد أن الدولة ستواجه أهوالاً عظامًا، وتحديات جسيمة، ومن المؤكد أن كثيرًا من التجمعات، والأفراد سيطمعون في الأمة الإسلامية بعد وفاة الرسول ، من يقود السفينة في الأمواج المتلاطمة؟



من أشد الصحابة ثباتًا وعزيمة؟



من أكثرهم يقينًا في وعد الله بالنصر؟



من أعظم الصحابة غيرةً على الدين؟



إنه الصديق ولا شك في ذلك، ظهر ثباته من أول يوم مات فيه رسول الله ، وظل ثابتًا في كل المواقف، والمشاهد، والأهوال، ظل ثابتًا في الردة، ظل ثابتًا أمام فارس، وظل ثابتًا أمام الروم، ما لانت له قناة وما اهتز له جفن.



- يروي لنا البيهقي بسند صحيح كما ذكر ابن كثير رحمه الله، عن أبي هريرة t أنه قال: والله الذي لا إله إلا هو، لولا أبو بكر استخلف ما عُبِد الله. ثم قال ثانية، ثم قال ثالثة، أي كرر نفس الجملة ثلاث مرات، فقيل له: مه يا أبا هريرة -أي كفاك ما قلت- إنه لقول عجيب.



فأخذ أبو هريرة يسرد أحداثًا يبرهن بها على صدق مقولته، قال: إن رسول الله وَجّه أسامة بن زيد رضي الله عنهما في سبعمائة إلى الشام، فلما نزل بذي خشب (مكان قريب إلى المدينة) قُبض رسول الله ، وارتدت العرب حول المدينة، فاجتمع إليه أصحاب رسول الله فقالوا: يا أبا بكر رد هؤلاء -يقصدون جيش أسامة- تُوَجه هؤلاء إلى الروم، وقد ارتدت العرب حول المدينة؟ فقال الصديق t: والذي لا إله غيره، لو جرت الكلاب بأرجل أزواج رسول الله ، ما رددت جيش وَجّهه رسول الله، ولا حللت لواءً عقده رسول الله.



فوجه أسامة فجعل لا يمر بقبيل يريدون الارتداد إلا قالوا: لولا أن لهؤلاء قوة ما خرج هؤلاء من عندهم، ولكن ندعهم حتى يلقوا الروم، فلقوا الروم فهزموهم وقتلوهم، ورجعوا سالمين فثبتوا على الإسلام.



إذن ثبات الصديق t كان رحمة من الله بالأمة، فاستمرت دعوة الإسلام وتوطدت أركان الدولة، واحتفظت الأمة الإسلامية بمكانتها وهيبتها.



لكل ما سبق نستطيع القول بأن اختيار الصديق t وأرضاه كخليفة للمسلمين كان اختيارًا عادلاً موفقًا صحيحًا، بل رحيمًا بالأمة.



كان ذلك لأنه أفضل الصحابة مطلقًا.



كان ذلك لأنه تتوافر فيه شروط الخليفة على أفضل ما يكون، ويتفوق فيها على كل الصحابة.



كان ذلك لأن الرسول كان راغبًا في استخلافه وإن كان أشار ولم يصرح.



وكان ذلك لأن مصلحة الأمة الإسلامية كانت في استخلاف هذا الرجل .


السيرة - فقه السيرة النبوية - الدرس (18-57) : إسلام سيدنا عمر بن الخطاب .
لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي بتاريخ: 2005-08-29
بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين, اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم, اللهم علمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا, وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً, وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً, وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه, وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين, أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات.

لماذا خص النبي بدعوته أحد هذين الشخصين ؟

أيها الأخوة، مع درس جديد من دروس فقه السيرة النبوية، ووصلنا في فقرات السيرة النبوية إلى إسلام حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه.
بادئ ذي بدء كان عليه الصلاة والسلام, يقول:

(( اللهم أعز الإسلام بأحد العمرين))

[ أخرجه الترمذي في سننه]

ويقصد عمر بن الخطاب، وعمرو بن هشام ( أبو جهل )، ولا بد من وقفة متأنية في شرح هذا الحديث:
النبي عليه الصلاة والسلام طلب النخبة تقدم، بينما غير النخبة لا تقدم، بل تأخذ النخبة تحمل معك، وغير النخبة ينبغي أن تحملهم، النخبة كالأعمدة للحق، بينما غير النخبة غثاء كغثاء السيل، والذي يؤلم الآن أشد الألم المسلم مع الاحترام البالغ لأية حرفة، لكن لماذا المسلم في أدنى درجة؟ ولماذا غير المسلم في أعلى درجة؟ الاختصاصي باختصاص نادر غير مسلم، المهندس البارع غير مسلم، الطبيب الأول غير مسلم، مع أن الله سبحانه وتعالى وزع القدرات بين كل الشعوب والأمم توزيعاً عادلاً.
أيها الأخوة، حينما قال عليه الصلاة والسلام:

(( تناكحوا، تكاثروا، تناسلوا، فإني مباهٍ بكم الأمم يوم القيامة ))

[أخرجه البيهقي عن سعيد بن أبي هلال في سننه ]
والله الذي لا إله إلا هو لا أصدق ثانية واحدة أن يكون التباهي بالعدد، والدليل الأمة الإسلامية اليوم يزيد تعدادها على مليار و300 مليون مسلم، ثلث سكان الأرض، ويتربعون على ربع احتياطي نفط في العالم، ويحتلون أكبر موقع استراتيجي في العالم، وعندهم ثروات لا يعلمها إلا الله، وإلههم واحد، ونبيهم واحد، وكتابهم واحد، ولا وزن لهم في الأرض، وليس أمرهم بيدهم، وليست كلمتهم هي العليا، وللطرف الآخر عليهم ألف سبيل وسبيل.

كيف يحترم الطرف الآخر دينك أيها المسلم ؟

أيها الأخوة، اسمعوا مني هذه الكلمة: ما لم تكن متفوقاً في دنياك فلن يحترم دينك، أريد مسلماً صناعياً كبيراً، وأستاذاً جامعياً كبيراً، وخبيراً نادراً، لذلك عليه الصلاة والسلام طلب النخبة, قال:

(( اللهم أعز الإسلام بأحد العمرين ))

[ أخرجه الترمذي في سننه]

لا تقنع أن تكون رقماً لا معنى له، لا تقنع بأن تكون إنساناً لا يقدم ولا يؤخر، علو الهمة من الإيمان, صدق القائل:
ملك الملوك إذا وهب قم فاسألن عن السبب
الله يعطي من يشـاء فقف على حـد الأدب
أيها الأخوة، المسلمون اليوم في محنة كبيرة، وما لم يتفقهوا في العلوم، وفي الصناعات، وفي استخراج الثروات، وفي استصلاح الأراضي، وفي إنشاء السدود، لا أحد يقيم لهم وزناً, وويل لأمة تأكل ما لا تزرع، وويل لأمة تلبس ما لا تنسج، وويل لأمة تستخدم آلة لا تصنعها، النبي عليه الصلاة والسلام طلب النخبة.
فإن أردتم لهذا الإسلام عزاً فتفوقوا، وما لم نتفوق الآن فلا تقوم لنا قائمة، هذه الحقيقة التي أنا قانع بها، طريق أن تعز الإسلام أن تكون قوياً بعلمك، بمالك، كن صاحب مشروع، هؤلاء القمم كانوا أشخاصاً عاديين في مقتبل حياتهم، أنا أطالبكم أن تكون همتكم عالية، علو الهمة من الإيمان.

ما هو سبب إسلام جيفري لانج ؟

مرةً أحد أكبر الملحدين في أمريكا كان طالباً في التعليم الثانوي، وانتقد أستاذ الديانة عندهم، فطرده والده من البيت، فاعتنق الإلحاد، وتابع دراسته، حتى صار أكبر عالم رياضيات في أمريكا، كان أستاذاً في جامعة سان فرانسيسكو، وكان متفوقاً إلى درجة أن أستاذه كان يقول له: اخرج من القاعة، وخذ علامة تامة، لأنه يربك أستاذه، أستاذه يستعين به أحياناً في بعض معضلات الرياضيات، عنده طالبة مسلمة من الشرق الأوسط، في أطروحتها مشكلة، فأرسلها إلى هذا العالم، يقول هذا العالم: رأيت فتاة من الشرق الأوسط تحضر دكتوراه في الرياضيات، وهي محجبة حجاباً تاماً، في حين أن فتيات أمريكا في الصيف يمشين في الطرقات شبه عرايا، فماذا في ذهن هذه الفتاة من مبادئ وقيم حتى ارتدت هذا الحجاب؟ قال: أعجبت بأنها إنسانة تملك مبدأ، أو تملك قناعة، ولم أجرؤ أن أنظر إلى وجهها لأنها قديسة، هكذا يقول، ورغبة أن أقدم لها كل خدمة، وعكفت في اليوم نفسه على قراءة القرآن، إلى أن أسلم، وهو الآن أكبر داعية في أمريكا، اسمه جيفري لانج، ما الذي جعله يسلم؟ فتاة تحضر دكتوراه في الرياضيات ومتحجبة.
الآن القوي لا يحترم إلا القوي، والعالم لا يحترم إلا العالم، فإن أردتم لهذا الإسلام عزاً فتفوقوا، وما لم نتفوق الآن فلا تقوم لنا قائمة، هذه الحقيقة التي أنا قانع بها، طريق أن تعز الإسلام أن تكون قوياً بعلمك، بمالك، كن صاحب مشروع، هؤلاء القمم كانوا أشخاصاً عاديين في مقتبل حياتهم، أنا أطالبكم أن تكون همتكم عالية، علو الهمة من الإيمان.

الخير العميم الذي نزل بالإسلام وأهله عند إسلام حمزة بن عبد المطلب:

سأريكم الآن ماذا حصل بعد أن أسلم سيدنا حمزة، وسيدنا عمر، علم حمزة بن عبد المطلب بعد عودته إلى مكة من الصيد، وذلك في السنة السادسة من بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن أبا جهل قد شتم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأساء إليه إساءات بذيئة، فبادر إلى أبي جهل، وهو في مجلسه بين قومه فضربه بالقوس على رأسه فشجه شجة منكرة، وقال له: أتشتمه، وأنا على دينه؟ وانشرح صدر حمزة للإسلام، وعرفت قريش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عز وامتنع، وأن حمزة سيمنع عنه الأذى، فكفوا عن بعض ما كانوا ينالون منه، كان حمزة قوياً، فلما انضم إلى الإسلام قوي الإسلام به.
وأنت حينما تكون قوياً، وتأتي إلى المسجد، وقد تكون صناعياً، أو تاجراً كبيراً، أو عالماً فذاً، أو أستاذاً جامعياً، وتجلس تقوي همة من حضر، فلان يحضر هذا المجلس، فلان أتى للمجلس، فلان صلى الجمعة، فلان حضر في هذا المسجد، أنت حينما تكون قوياً تدعم الحق وتنصره.

هل تفوق الأنبياء أمام التحديات التي وقفت في طريقهم؟

أيها الأخوة، هناك نقطة دقيقة جداً: أن الإسلام ينبغي أن يستخدم السلاح الفعال، يوم كان السحر متفوقاً في عهد موسى عليه السلام، ما نوع معجزة موسى؟ شيء يفوق إمكانات السحرة, قال تعالى:

﴿فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ * وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ﴾

( سورة الأعراف الآية: 107-108 )

ويوم كان الطب متفوقاً في عهد سيدنا عيسى, ماذا فعل هذا النبي الكريم؟ قال تعالى:

﴿وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ﴾

( سورة آل عمران الآية: 49 )

ويوم كانت العرب في أعلى درجات البلاغة والفصاحة جاء القرآن بأسلوب معجز، ونحن الآن حينما نتفوق يحترمنا أعداؤنا، حينما نأتي بشيء جديد، حينما نحل مشكلاتنا.
مرةً أحد أخوتنا الكرام متفوق تفوقاً كبيراً في هندسة الري، وحضر مؤتمرًا في فرنسا، وعرضت مشكلة حار بها المؤتمرون طوال أيام المؤتمر، فألقى محاضرة، وقدم حلاً لهذه المشكلة، دُهش المؤتمرون، وسألوه في أية جامعة درست؟ فقال بأعلى صوته: درست في جامعة دمشق.

كيف نوظف منهج القوة في الإسلام ؟

أيها الأخوة, قال تعالى:

﴿وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً﴾

( سورة البقرة الآية: 165 )

القوي هو الله, ولا قوي سواه، وكل قوة في الأرض مستمدة من قوة الله، استدراجاً لغير المؤمنين، أو تمكيناً للمؤمنين، أو تسخيراً لغير البشر، هذه القوة وزعت بحكمة بالغة عرفها من عرفها، وجهلها من جهلها، القوة قوة العلم، وقوة المال، وقوة المنصب، فإذا وصلت إلى أحد هذه القوى خياراتك في العمل الصالح كثيرة جداً، وحينما تعلم أن سر وجدوك في الدنيا العمل الصالح, فالحالة التي تمكنك من الأعمال الصالحة حالة تتوافق مع دينك، القوي بماله يفتح مستشفى، يفتح ميتم, يؤسس مدرسة، يبني جامع، ينشر كتاب، يرسل بعثات إلى الخارج، لو أن واحداً من أهل الغنى أرسل فرضاً ألف طالب على نفقته إلى جامعات الغرب، وجاؤوا بأعلى الشهادات، وكانوا في خدمة المسلمين اختلف الوضع.
أيها الأخوة، إذا كان الطريق إلى القوة سالكاً وفق منهج الله فينبغي أن تكون قوياً، وإذا كان طريق الغنى سالكاً وفق منهج الله فينبغي أن تكون غنياً، وإذا كان الطريق إلى منصب قوي سالكاً وفق منهج الله فينبغي أن تبلغ هذا المنصب، أما إذا كان طريق القوة في العلم، أو المال، أو المنصب يقوم على معصية الله فأن تكون فقيراً هو وسام شرف لك، وأن تكون ضعيفاً وسام شرف لك، وأن تكون محدود الإمكانات وسام شرف لك، العبرة أن تكون في طاعة الله.

خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا:

أيها الأخوة، أما سيدنا عمر فكان رجلاً قوياً مهيباً، وكان يؤذي المسلمين، ويشتد عليهم، وكان عليه الصلاة والسلام يدعو الله أن ينصر دينه به.
لكن هناك ناحية دقيقة، الإنسان الذي لم يعرف الحق، وكان قوياً, ويحب الخير، ويحب ألا يؤذي أحداً، هذا الصالح يتولى الله أمره، لقوله تعالى:

﴿وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ ﴾

( سورة الأعراف الآية: 196 )

تجد إنسانًا في الجاهلية لا يصلي، ولا ينتمي إلى هذا الدين، لكن لا يحب أن يظلم، لا يحب أن يؤذي، لا يحب أن يعمل شيئاً لا يرضي ضميره، هذا الإنسان الصالح يتولاه الله بالهداية، لذلك قال عليه الصلاة والسلام:

(( خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا ))

[ أخرجه البخاري عن أبي هريرة في الصحيح ]

وحينما أسلم بعض الصحابة, قال:

(( أسلمت على ما أسلفت من خير ))

[متفق عليه, أخرجهما البخاري ومسلم عن حكيم بن حزام في صحيحهما]

هناك توجيه لطيف، إن رأيت صديقاً لك لا يصلي، ولا يؤدي العبادات، لكنه لا يؤذي، عنده مروءة، عنده شهامة، لا يحب إلا أن يكون بطلاً، هذا الإنسان فاطمع به، وقدم له كل خير، فلعل الله سبحانه وتعالى يجعله يلتزم فيكون قوة للمسلمين.

صفات عمر قبل الإسلام:

أيها الأخوة, فكان عمر رجلاً قوياً مُهيباً، وكان يؤذي المسلمين، ويشتد عليهم، وكان عليه الصلاة والسلام يدعو الله أن ينصر دينه به،

(( اللهم أعز الإسلام بأحد العمرين ))

[ أخرجه الترمذي في سننه]

قال سعيد بن زيد بن عمر، ابن عم عمر، وزوج أخته: والله لقد رأيتني، وأن عمر لموثقي ـ قيّده ـ وأخته على الإسلام قبل أن يسلم، يعني كان يشتد على ابنه عمه زوج أخته وعلى أخته، ماذا قال النبي عن أهل الطائف:

(( اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون ))

[ورد في الأثر]

اعتذر عنهم، واحد دخل إلى بستان أنصاري، وأكل من دون إذن، وساقه صاحب البستان إلى رسول الله على أنه سارق، فقال عليه الصلاة والسلام:

((هلا علمته إن كان جاهلاً ، وهلا أطعمته إن كان جائعاً قبل أن تنفجر، وقبل أن تصرخ))

[ورد في الأثر]

هل أديت واجبك نحو هذا الفقير ؟ علمته إن كان جاهلاً, أطعمته إن كان جائعاً.

ما هو سر إسلام عمر بن الخطاب ؟

أيها الأخوة, لم تصح رواية في تعيين وقت إسلام عمر، فقد جعل ابن إسحاق كاتب السيرة الشهير إسلامه بعد هجرة المسلمين إلى الحبشة، والواقدي جعل إسلامه في نهاية السنة السادسة من البعثة النبوية، وكان عدد المسلمين أربعين مسلما، وفي رواية 56، منهم 11 امرأة، هؤلاء:

﴿وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ﴾

( سورة الواقعة الآية: 10 )

أخبرت أم عبد الله وهي مهاجرة إلى الحبشة أن عمر اطلع على استعدادها للهجرة، وأنه رق لها ولزوجها، على الرغم ما كان يلقون منه من البلاء والأذى قبل ذلك، ولأنها رأت منه رقة لم تكن تراها من قبل، قالت: قد أحزنه ما رأى من استعدادنا للخروج، لذلك مرة ثانية، إن رأيت قلباً رحيماً اطمع به، واعتنِ به لعل يكون هدايته على يديك، وإن رأيت ذكياً فاطمع به.
الآن يجب أن تعلموا سر إسلامه, كان في قلبه رقة، كان رحيم، لما سيدنا عمر تولى الخلافة، وسيدنا الصديق استخلفه، جاء من يلوم سيدنا الصديق لأن عمر فيما يزعمون شديد وقوي، فقال سيدنا الصديق: أتلومونني على أنني وليت عمراً؟ والله إنه أرحم الناس بكم، فإن بدل وغير فلا علم لي بالغيب.
سيدنا عمر لما تولى الخلافة, قال: إن الناس هابوا شدتي، كنت خادم رسول الله وسيفه المسلول وجلواده، فكان يغمدني إذا شاء، وتوفي وهو عني راضٍ، الحمد لله على هذا كثيراً، وأنا به أسعد، ثم كنت خادماً لأبي بكر وجلواده، وسيفه المسلول، فكان يغمدني إذا شاء، وتوفي وهو عني راضٍ, وأنا بذلك أسعد، ثم آلت الأمور إلي فاعلموا أن تلك الشدة قد أضعفت، وإنني سأضع رأسي ليدوس عليه أهل العفاف والتقوى، كان رحيماً، قال: والله لو يعلم الناس ما في قلبي من الرحمة لأخذوا عباءتي هذه.
سيدنا عمر كان رحيماً، وأي قلب ليس فيه رحمة بعيد عن الله، وأي قلب ينبض بالرحمة قريب من الله عز وجل، الإنسان قبل أن يسلم، وقبل أن يؤمن، وقبل أن يلتزم، إن كان رحيماً هذه بشارة طيبة، لأن الله سيتولاه.
أيها الأخوة، سيدنا خالد أسلم متأخراً، فلما أسلم قال عليه الصلاة والسلام:

((عجبت لك يا خالد، أرى لك فكراً))

[ورد في الأثر]

لذلك ورد في الأثر:

(( أن أرجحكم عقلاً أشدكم لله حباً ))

[ورد في الأثر]

فهذه أم عبد الله طمعت في إسلامه في حين أن زوجها كان يائساً من إسلامه لما يرى من غلظته وقوته وقسوته على المسلمين.

أي القلبين أقرب إلى الله:

أخوانا الكرام، بالمناسبة إن كان هناك مؤشر للإيمان ومؤشر للرحمة, اعلم علم اليقين أن المؤشرين يتحركان معاً، بقدر إيمانك وبقدر رحمتك، والله عز وجل يقول:

﴿فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ﴾

( سورة الزمر الآية: 22 )

أبعد قلب عن الله القلب القاسي، وأقرب قلب إلى الله القلب الرحيم، وهل تصدقون أن بغياً من بني إسرائيل رأت كلباً يأكل الثرى من العطش فرقت له، وأدلت بخفها مع نطاقها وملئت خفها ماء فسقت الكلب؟ فشكر الله لها وغفر لها، لأنها رحمت هذا الكلب، بينما امرأة:

(( عذبت امرأة في هرة سجنتها حتى ماتت فدخلت فيها النار؛ لا هي أطعمتها وسقتها إذ حبستها، ولا هي تركتها تأكل من حشاش الأرض ))

[ متفق عليه, أخرجهما البخاري ومسلم في صحيحهما]

كيف نوفق بين هذين الحديثين ؟

أيها الأخوة، هناك ملمح آخر يجب أن يكون واضحًا عندكم، حينما جاء جبريل عليه السلام، وسأل سيد الأنام، قال: يا رسول الله! أتحب أن تكون نبياً ملكاً، أم نبياً عبداً؟ قال: بل نبياً عبداً أجوع يوما فأذكره، وأشبع يوماً فأشكره" كيف نوفق قول النبي عليه الصلاة والسلام:

(( المُؤْمِنُ القَوِيُّ خَيْرٌ وَأحَبُّ إلى اللَّهِ تَعالى مِنَ المُؤْمِنِ الضَّعِيف ))

[أخرجه مسلم عن أبي هريرة في الصحيح]
وبين قول النبي الكريم حينما سُئل أتحب أن تكون نبياً ملكاً, أم نبياً عبداً؟ التوفيق سهل، القوي بماله، أو القوي بعلمه، أو القوي بمنصبه أقدر على العمل الصالح من الضعيف والجاهل ومحدود الإمكانات، القوي أقدر والضعيف أقل قدرة، والغني أقدر والفقير أقل قدرة، والذي يحتل منصب رفيع أقدر من الذي لا يحتله، لأنه عنده قدرة في إحقاق الحق وإبطال الباطل.

إليكم الحكمة الربانية في توزيع الحظوظ في الدنيا بين البشر:

أيها الأخوة, هناك ملمح ينفعنا جميعاً، المئة قوي إذا امتحنهم الله بالقوة قد ينجح منهم 10 %، و100 غني لو امتحنوا بالغنى قد ينجح منهم 10 %, لكن الـ 100 ضعيف قد ينجح 90, والـ 100 فقير قد ينجح 90، فإذا كان الواحد إيمانه قوي جداً أنا أدعو له أن يكون قوياً بالمعنى المادي، لأن أعماله الصالحة كبيرة جداً، والله هناك أعمال صالحة كالجبال، والله بعض أغنياء المسلمين لهم أعمال كالجبال، ويحملون عبئا كبير جداً، أما إذا كان الإنسان ضعيفاً فهو أقرب إلى العبودية من القوي.
هناك مغامرة، إذا كنت قوياً قد لا تنجح، وإذا كنت غنياً قد لا تنجح، لذلك أجمل ما يقال في هذا المقام علم ما كان، وعلم ما يكون، وعلم ما سيكون، لكن الرابعة أقوى شيء، وعلم ما لم يكن لو كان كيف كان يكون؟ أنت على دخل محدود، من طلاب المساجد، مستقيم، بيتك إسلامي، دخلك حلال، إنفاقك حلال، زوجتك محجبة، لا تقترف المعاصي، لو كان معك ألف مليون، أين تكون؟ لا نعرف، من يعرف ذلك؟ الله وحده، وعلم ما لم يكن لو كان كيف كان يكون؟ لذلك قال عليه الصلاة والسلام فيما يرويه عن ربه:

(( إن من عبادي من لا يصلح له إلا الغنى، فإذا أفقرته أفسدت عليه دينه، وإن من عبادي من لا يصلح له إلا الفقر فإذا أغنيته أفسدت عليه دينه ))

[ورد في الأثر]

دعاء النبي لأحد العمرين دخل في طور الاستجابة الإلهية:

أيها الأخوة، لا زلنا مع سيدنا عمر، الله عز وجل استجاب لدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأسلم عمر، لكن عدة روايات لا ترقى إلى مستوى الصحة تتحدث عن سبب إسلام عمر، لكن أقواها أن هذا الخليفة الراشد يوم كان في الجاهلية يبدو أنه أصغى إلى تلاوة القرآن، وقد سمعها من سيد الأنام، والقرآن فيه روعة وبيان، وتصوير لمشاهد يوم القيامة، ووصف للجنة والنار، رقى قلبه.
أحياناً تلقي محاضرة، هذه المحاضرة تضيف إلى قناعتك بهذا الدين خمسة غرامات، ومحاضرة ثانية خمسة غرامات، تتنامى قناعتك إلى أن تصل إلى درجة الالتزام عندئذٍ تطبق، في البداية أنت لست قانعاً، كلما استمعت إلى درس، كلما فهمت آية، كلما وصلت إلى معنى حديث صحيح، كلما قرأت عن مشهد بطولي لأصحاب رسول الله، كلما اطلعت على آية في الإعجاز العلمي تتنامى قناعاتك، فإذا تنامت قناعتك, ما الذي يحصل؟ تدخل في طور آخر وهو التطبيق.
إن صح التمثيل: ميزان، كفة للقناعات، وكفة للشهوات، كفة الشهوات راجحة، لو أن الشهوات مثلناها بعشرة كيلو هذه المحاضرة خمس غرامات، الكفة راجحة، الشهوات راجحة، هذه المحاضرة خمسون غرامًا، هذه خمسمئة، إلى أن تتجمع القناعات إلى مستوى الشهوات، تدخل بالصراع، تحتار أفعل أو لا تفعل, عندك قناعات كثيرة، عندك قوى ضاغطة، أما إذا جاءت القناعات مئة كيلو، والشهوات عشرة كيلو دخلت في الأعماق,

(( والله يا عم، لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه ))

[ورد في الأثر]

استجاب الله تعالى لدعوة رسول الله فأسلم عمر، وأعز الله به الإسلام والمسلمين.

ما هي الثمرة التي اقتطفها المسلمون من إسلام عمر:

1- أن المسلمين صلوا بالبيت العتيق:

أيها الأخوة, أول ثمرة من ثمرات إسلام عمر أن المسلمين صلوا بالبيت العتيق، ولم يكونوا يجرؤون أن يصلوا في هذا البيت إلا بعد أن أسلم عمر، وبعد أن أسلم حمزة امتنع الكفار عن إيذاء المسلمين،

(( اللهم أعز الإسلام بأحد العمرين ))

[ أخرجه الترمذي في سننه]

سيدنا عبد الله بن مسعود, قال: " لقد رأيتنا ما نستطيع أن نصلي بالبيت العتيق حتى أسلم عمر، وما زلنا أعزة منذ أسلم عمر "، إن إسلامه كان نصراً، وهو ما عناه حبر الأمة عبد الله بن عباس حينما خاطب عمر رضي الله عنه بعد حادثة طعنه، فقال له: فلما أسلمت يا أمير المؤمنين كان إسلامك عزاً، وأظهر بك الإسلام وأيده وقواه.
لذلك كن قوياً، إذا كان طريق القوة سالكاً وفق منهج الله، وكن غنياً إذا كان طريق الغنى سالكاً وفق منهج الله، أما إذا كان طريق القوة سالكاً على حساب دينك فمرحباً بالضعف، وإذا كان طريق الغنى سالكاً على حساب دينك مرحباً بالفقر.
لذلك قالوا: فرق بين المداهنة والمداراة، المداهنة بذل الدين من أجل الدنيا، والمداراة بذل الدنيا من أجل الدين، والفرق كبير بينهما.

هل سلم عمر من أذى قريش ؟

أيها الأخوة, فما أن علم جميل بن معمر الجمحي بإسلام عمر حتى قام يجر رداءه، وعمر خلفه، حتى إذا قام على باب المسجد صرخ بأعلى صوته: يا معشر قريش، ألا إن عمر قد صبأ، كان مصطلحًا لمن يسلم، وعمر خلفه، يقول: كذب والله، ولكنني أسلمت، وشهدت أنه لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله، فساروا، حتى لقد سال بهم الوادي من كثرتهم يريدون قتله، لولا أن أجاره العاص بن وائل السهمي، وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم سماه الفاروق، أي الذي فرق بين الحق والباطل.

سر الفرق بين هجرة النبي سراً وهجرة عمر جهراً ؟

أيها الأخوة, سيدنا عمر رضي الله عنه كان رجل مبدأ، وقد أنشئ متحف في بريطانيا سمي كهف العدالة، فيه أقوال هذا الخليفة العظيم، وأحكامه السديدة، سيدنا عمر هناك من يصفه بأنه عملاق الإسلام، وكان هذا الخليفة الراشد قوياً، لكن قد يتساءل بعضكم: كيف يهاجر جهاراً نهاراً، ويتحدى المشركين، بينما النبي عليه الصلاة والسلام يهاجر سراً متخفياً؟ النبي عليه الصلاة والسلام مشرع، وسيدنا عمر غير مشرع، لو أن النبي هاجر كهجرة عمر لعد اقتحام الأخطار واجباً، ولعد أخذ الحيطة حراماً, فهلكت أمة النبي من بعده، ولكن النبي مشرع، وسيدنا عمر وقف موقف شخصي.
إن شاء الله في درس قادم ننتقل إلى موضوع جديد موضوع الحصار الاقتصادي الذي ضربه المشركون حول المسلمين، والتاريخ يعيد نفسه.
والحمد لله رب العالمين

السيرة - فقه السيرة النبوية - الدرس (13-57) : كتاب الوحي : أهمية اللغة العربية .
لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي بتاريخ: 2005-07-25
بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين, اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم, اللهم علمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا, وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً, وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً, وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه, وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين, أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات.

ما الحكمة من أن النبي عليه الصلاة والسلام كان أمياً ؟

أيها الأخوة الكرام، مع درس جديد من دروس فقه السيرة النبوية، وننتقل اَليوم إلى كتاب الوحي، ولا بد من موضوعين:
الأول: أمية النبي صلى الله عليه وسلم.
الثاني: أن القرآن الكريم نزل بلسان عربي مبين، موضوعان تمهيديان لموضع كتابة الوحي.
الموضوع الأول: ما الحكمة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أمياً؟ وقد يتبادر إلى الذهن أن الأمي هو الذي لا يقرأ ولا يكتب، فلو أن النبي كان يقرأ ويكتب، وهو معلم البشرية فكيف نجمع بين أن الأمية نقص في شخصية الإنسان، وبين أن الأمية من صفة النبي عليه الصلاة والسلام؟
الكلام الجامع المانع المختصر المفيد أن أمية النبي وسام شرف له، وأميتنا وصمة عار بحقنا، لأن الله سبحانه وتعالى أراد أن يبقى وعاء النبي طاهراً من كل ثقافة أرضية، لأن الله تولى بذاته العلية تعليمه, قال تعالى:

﴿عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى ﴾

( سورة النجم الآية: 5-6 )

فلأن الله تولى تعليمه، ولأن هذا النبي مشرع، وقد أُمر الناس باتباعه، إذاً: هو معصوم، لذلك أميته أن وعاءه ليس فيه إلا وحي السماء، قال الله عز وجل:

﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ﴾

( سورة النجم الآية: 3-4)

لو أنه على ثقافة أرضية، وبدأ يدعو إلى الله, لكان السؤال المتكرر كل يوم: يا رسول الله! هذا الذي تقوله من وحي السماء أم من ثقافتك؟ قال تعالى:

﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ﴾

( سورة النجم الآية: 3-4)

وما لم نعتقد اعتقاداً جازماً بعصمة النبي صلى الله عليه وسلم، أي أن الله عصمه من أن يخطئ في أقواله، وفي أفعاله، وفي إقراره لا نكون على عقيدة سليمة، ولأن الله عصمه أمرنا أن نأخذ عنه، قال تعالى:

﴿وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ﴾

( سورة الحشر الآية: 7)

كيف عصمه؟ جعل كل وعائه المعرفي ممتلئاً من وحي السماء، هذه حقيقة أولى، أما نحن فقال عنا النبي صلى الله عليه وسلم:

(( إنما العلم بالتعلم، وإنما الكرم بالتكرم، وإنما الحلم بالتحلم ))

[ورد في الأثر]

لا أسمح أن يقول إنسان: أنا أتعلم من الله مباشرة، أما الآية التي يذكرها كل من يدعي هذه الدعوة فهي:

﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾

( سورة البقرة الآية: 282)

ليس هذا هو معناها، لو أن المعنى كما يتوهم القائل لكانت الصيغة على الشكل التالي: واتقوا الله يعلمكم الله، جواب الطلب، واتقوا الله يعلمكم الله، لكن الآية لها معنى آخر:

﴿ وَاتَّقُوا اللَّهَ ﴾

( سورة البقرة الآية: 282)

لمَ لا تتقونه؟ لأنه يعلمكم دائماً، علمكم بالكون، وعلمكم بالوحي, وعلمكم بالأنبياء، وعلمكم بالرسل، وعلمكم بالدعاة، وعلمكم بأفعاله، وعلمكم بالتربية النفسية، هو يعلمكم دائماً لماذا لا تتقون الله؟

﴿ وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾

( سورة البقرة الآية: 282)

لأن الله يعلمكم، أما أن تفهم أنه يكتفي أن تتقي الله فيأتيك العلم اللدوني، هذا مجال كبير للشطط والشطح هو أن يقول الإنسان على الله ما لا يعلم.
إذاً: النبي عليه الصلاة والسلام, قال: (( إنما ))، النبي أفصح العرب، فإذا قال: (( إنما ))، إنما أداة قصر، يعني ليس هناك من سبيل إلى العلم إلا بالتعلم بالنسبة لنا، أما النبي كان أمياًَ وأميته وسام شرف، تولى الله تعليمه, قال تعالى:

﴿وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ﴾

( سورة العنكبوت الآية: 48 )
لكن ما دام الموضوع قد تشعب، في الدين أصول وفروع، الأصول أن تعرف الله, والفروع أن تعرف منهجه، فأنت بآياته التكوينية والكونية والقرآنية تعرفه، وأنت في الأحكام الفقهية تعبده، بالكون تعرفه وبالشرع تعبده.

اللغة التي أنزل بها القرآن:

أيها الأخوة، ننتقل إلى موضوع آخر، وهو أن هذا القرآن نزل بلسان عربي مبين، قال تعالى:

﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾

( سورة يوسف الآية: 2)

﴿وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَناً عَرَبِيّاً ﴾

( سورة طه الآية: 113 )

﴿قُرْآَناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ﴾

( سورة الزمر الآية: 28 )

﴿فُصِّلَتْ آَيَاتُهُ قُرْآَناً عَرَبِيّاً﴾

( سورة فصلت الآية: 3 )

﴿إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآَناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾

( سورة الزخرف الآية: 3)
وآخر آية, قوله تعالى:

﴿حُكْماً عَرَبِيّاً﴾

( سورة الرعد الآية: 37 )

فالله سبحانه تعالى شرف هذه الأمة بأن جعل وحيه يتنزل باللغة العربية، وقد يسأل سائل: لماذا كانت العربية مشرفة بوحي السماء؟ الحقيقة أن الذي يدرس فقه اللغة يعلم علم اليقين أن الطرف الآخر الذي لا يحابي هذه الأمة إطلاقاً يعترف أن اللغة العربية من أرقى اللغات الإنسانية، لكنها تضعف بضعف قومها، وتقوى بقوة قومها.

من خصائص اللغة العربية:

1- اﻹعراب:

أيها الأخوة, ما معنى اللغة العربية من أقوى اللغات الإنسانية؟ لها خصائص، من هذه الخصائص الإعراب.
إن الذي قتل زيداً هو عمرٌ، إذا قلت: قتل عمرٌ زيداً، ما دام رفعت عمر, إذاً: هو الفاعل، تتميز اللغة العربية بالإعراب، والإعراب في اختزال للمعاني، الضمة تعني أن هذا هو الفاعل، والفتحة تعني أن هذا المفعول به، فمن أولى خصائص العربية الإعراب، فلذلك الذي يقرأ العربية يفهم فيقرأ، في بعض اللغات الأخرى يقرأ فيفهم، أما نحن فينبغي أن تفهم حتى تستطيع أن تقرأ صحيحاً، هذا يحتاج إلى بديهة، وإلى أن تلقي نظرة إلى كلمة أو كلمتين قادمتين، كي تعرف أن هذا الفعل مبني للمجهول أو للمعلوم، وأن هذا هو الفاعل، لذلك تعد هذه اللغة من أرقى اللغات الإنسانية لأن فيها الإعراب.

2- الاشتقاق:

أخواننا الكرام، هناك ظاهرة الاشتقاق، اللغة العربية كلماتها كالأسرة، الجد هو المصدر، والأولاد الفعل الماضي والمضارع والأمر، والمجرد والمزيد، والزيادات لها معاني دقيقة، وزن فاعل غير فعل، وزن تفاعل غير فعل، وزن استفعل غير فعل، فصيغة استفعل لها معنى، على وزن استغفر، استرحم، استرشد، وفاعل فيها المشاركة قاوم، وناضل، وشارك واستكتب طلب الكتابة، فالأفعال لها أوزان، وأوزانها مجردة ومزيدة، وعندنا أحد أبناء الفعل الماضي، والفعل المضارع، والفعل الأمر، واسم المكان، واسم الزمان، واسم الآلة، والصفة المشبهة باسم الفاعل، واسم التفضيل، وعندنا صيغ كثيرة جداً، ثم صيغ مبالغة اسم الفاعل، فعول، فعيل، مفعال، عندنا اسم فاعل واسم مفعول، واسم آلة، واسم زمان، واسم مكان، وصيغة مشابهة اسم الفاعل، هذه كلها صيغ، فعندنا اللغة أسرة.

3- اتساعها في التعبير:

من خصائص العربية التي جعلها الله لغة لقرآنه اتساعها في التعبير, ضربت مثلاً مرة: هناك نظر, واستشف، يعني نظر مع التمطي، واستشف، نظر مع اللمس، و حدج، نظر مع المحبة، وفي الحديث الشريف:

(( حدث القوم ما حدجوك بأبصارهم ))

[ورد في الأثر]

هناك نظر مع الاستمتاع، نظرت إلى منظر جميل، تقول: رأى، رأى بقلبه، رأيت العلم نافعاً، رأيت الأمانة غنى.
هناك لاح، السماء ملبدة بالغيوم، وفيها فجوات، فلاحت طائرة، يعني ظهرت، ثم اختفت، وأنت تمشي في الطريق رأيت باباً مفتوحاً، التفت إليه، فإذا امرأة فغضضت البصر، أي لمح، لاح شيء، ولمح شيء.
الآن حدق؛ اتسعت حدقت العين، حملق؛ ظهر حملاق العين، باطن الجفن أحمر، شخص نظر مع الخوف، سمع انفجارًا، فخاف، نقول: شخص، نظر إنسان على تاجر المخدرات بازدراء، نظر شزراً، شخص، ولاح، ولمح، وحدق، وحملق، واستشف، ورأى، العربية واسعة جداً في التعبير، وكلما اتسعت اللغة في التعبير جاءت العبارة لطيفة، قال الله:

﴿قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي﴾

( سورة طه الآية: 18 )

ما معنى أهش؟ أضرب, لا، أشير, لا، هناك لمس، لكن ما فيها ضرب، معنى دقيق جداً، قال تعالى:

﴿قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآَرِبُ أُخْرَى ﴾

( سورة طه الآية: 18 )
إذاً: اللغة العربية متسعة بالتعبير.

4- الحروف تناسب بعض المعاني:

شيء آخر، الحروف فيها تناسب بعض المعاني، الحرف وحده فيه معنى، فكل كلمة فيها غين فيها اختفاء، غيبة، غاب، غريب، غيبوبة، وكل شيء فيه تكرار في راء، مر، جر، كر، خر، وكل كلمة فيها سين فيها شيء نفسي، حس، أنس، سر، سؤال، سرور، وكل كلمة فيها قاف فيه اصطدام طرق، لصق، سيدنا عمر, يقول: " تعلموا العربية فإنها من الدين ".

5- قابلة للاختزال أو الاختصار:

من هذه اللغة خصيصة أخرى، أنها قابلة للاختزال، لو وقف أربعة صحفيين ليأخذوا حديث مسؤول كبير باللغة العربية وحدها فقط يمكن أن تكتب كلامه، أما بأي لغة أخرى تحتاج إلى لغة أخرى اسمها لغة الاختزال، لن تستطيع بلغة أخرى أن تكتب ما يقال، إلا العربية بإمكانك أن تكتب ما يقال، عدد الحروف قليل، والمعاني كثيرة، والدليل اكتب باللغة الإنكليزية، محمد عشرة حروف، عدهم بالعربي أربعة حروف محمد( م ح م د )، لذلك هذه اللغة فيها اختزال.
المرأة لها جمال، أما الرجل فجماله فصاحته، فلا تعجب أن يدخل وفد على خليفة كبير كسيدنا عمر بن عبد العزيز يتقدمهم غلام، يغضب الخليفة، فيقول: أيها الغلام، اجلس وليقم من هو أكبر منك سناً، فيقول هذا الغلام: أصلح الله الأمير، المرء بأصغريه، قلبه ولسانه، فإذا وهب الله العبد لساناً لافظاً، وقلباً حافظاً، فقد استحق الكلام، ولو أن الأمر كما تقول لكانت في الأمة أحق منك بهذا المجلس.
غلام آخر دخل على عبد الملك بن مروان، وكان من كبار خلفاء بني أمية، فوبخ حاجبه، وقال له: ما شاء أحد أن يدخل علينا إلا دخل, حتى الصبية, فابتسم هذا الغلام الصغير، وقال: أصلح الله الأمير، إن دخولي عليك لم ينقص من قدرك، ولكنه شرفني، أصابتنا سنة أذابت الشحم، وسنة أكلت اللحم، وسنة دقت العظم، ومعكم فضول أموال، فإن كانت لنا فعلامَ تحبسوها عنا؟ وإن كانت لكم فتصدقوا بها علينا، وإن كانت لله فنحن عباده، فقال: والله ما ترك لنا هذا الغلام في واحدة عذراً.
سيدنا عمر يمشي في طُرق المدينة، أطفال عدة يلعبون، فلما رأوه هابوا وفروا، واحد منهم بقي واقفاً، لفت نظره، قال: يا غلام، لمَ لم تهرب مع من هرب؟ قال: أيها الأمير، لست ظالماً فأخشى ظلمك، ولست مذنباً فأخشى عقابك، والطريق يسعني ويسعك.
يعني ما الذي يمنع أن نعلم أبناءنا اللغة الفصحى؟ أن نعلمهم المطالعة، أن نعلمهم الكتابة، أن نعلمهم إلقاء الكلمات، لأن جمال الرجل فصاحته.

عدد اللهجات التي تكلم بها القرآن:

فالقرآن الكريم نزل بلسان عربي مبين، لكن ورد أن هذا القرآن نزل على سبعة أحرف، يعني على سبع لهجات، ولكل قبيلة لهجة، وكان عليه الصلاة والسلام يخاطب الرجال بلهجاتهم، سأله مرة واحد: هل من أمبر أمصيام من أمسفر؟ يعني هل من البر الصيام في السفر؟ فأجابه عليه الصلاة والسلام ليس من أمبرٍ أمصيامٌ في أمسفر، أجابه بلهجته، فتيسير على العرب الذين استقبلوا هذا الدين العظيم نزل هذا القرآن على سبعة أحرف، أي على سبعة لهجات.
لذلك قريش تسهل، وتميم تحقق, ما معنى ذلك؟ الهمزة إما أن تحقق، وإما أن تسهل، إذا قلت: ملايكة لهجة قريش، أما إذا قلت: ملائكة لهجة تميم، فتميم تحقق، وقريش تسهل، إذا قلت: تأريخ لهجة تميم، إذا قلت: تاريخ لهجة قريش، فكل همزة إما أن تحقق، وإما أن تسهل، بل إن كتابة الهمزة لها قاعدة تنتظمها، الهمزة تكتب على الحرف لو سهلت قرأ ذلك الحرف، تكتب الهمزة في بئر على نبرة، لو سهلتها تقول: بير، تكتب مؤمن على واو لو سهلتها تقول: مومن، تكتب تأريخ على ألف لو سهلتها تقول تاريخ.
إذاً: القرآن الكريم فضلاً عن أنه نزل عربياً نزل بلهجات العرب، وهذا تسهيلاً للذين أمروا أن يتلقوه بالإيمان والتعظيم، يقول عليه الصلاة والسلام:

(( أقرأني جبريل القرآن على حرف، فراجعته، فلم أزل أستزيده فيزيدني حتى انتهى إلى سبعة أحرف ))

[أخرجهما البخاري ومسلم في صحيحهما]

لكن هناك تعليق، الآن اللغة موحدة، أنا لا أرى حاجة كبيرة جداً إلى أن تقرأ كل القراءات، لأنه الآن نحن جميعاً, نقول: إبراهيم، لا داعي لأن تقول: إبراهام، هي قراءة، فالآن بعد ما توحدت اللغة فليس هناك من ضرورة أن تتحف الآخرين بكلمات غير مألوفة، مع أنها قراءات.

الحكمة الإلهية في اختيار الجزيرة العربية مكاناً لبعثة النبي محمد عليه الصلاة والسلام:

الحقيقة أن الذين يحسنون الكتابة كانوا قلة في مكة، وقلة في المدينة، والحقيقة أن الأمة التي اختارها الله لهذه الرسالة العظيمة أمة عاشت في الصحراء، وثقافتها محدودة جداً، وهناك حِكم قد لا نكشفها الآن، في هذه الأماكن الممتدة، وفي هذه الحياة البسيطة، ليس هناك نفاق، وليس هناك تعقيد، وليس هناك كذب، في بالصحراء حياة رائعة جداً، النبي أقرها، فيها المروءة، والشهامة، والشجاعة، والفصاحة، صفاء الذهن، وهناك حكم كثيرة أن الحياة ليست معقدة، تصور لو في هذا العصر جاء نبي، ماذا تقرأ في الأخبار؟ تصور الأخبار التي سوف تغطي ظهور نبي في هذا العصر، يتصلوا بعالم نفس, فيقول: هذا معه عقدة نفسية، يتصلون بعالم اجتماع، فيقول: هذا يحب أن يسيطر على مجموعة كبيرة، عنده شذوذ في علاقاته الاجتماعية.
أيها الأخوة، أحد كبار علماء النفس يتهم الأنبياء بالشذوذ، قال: لأنهم يحبون أن يجلسوا مع الرجال، لحكمة بالغة أن النبي عليه الصلاة والسلام جاء في مكان، وفي زمان بسيط، لو أنه جاء في هذا الزمان لرأيت العجب العجاب من التكذيب والسخرية والاستهزاء، فلذلك لحكمة بالغةٍ بالغة كانت بعثة النبي عليه الصلاة والسلام في بلاد بسيطة، وفي علاقات اجتماعية بسيطة.

كاتبو الوحي:

اشتهر أيها الأخوة من كتاب الوحي زيد بن ثابت، مع أنه أسلم بعد الهجرة، واقتصرت الكتابة بذلك على ما نزل في المدينة من كتاب الوحي زيد بن ثابت، ولم يكتب من السور المكية شيئاً، وأول من كتب آيات التنزيه من مكة المكرمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم من قريش رجل اسمه عبد الله بن سعد بن أبي السرح، ممن كتب في الجملة الخلفاء الأربعة، والزبير بن العوام، وخالد، وأبان ابنا سعيد بن العاص ابن أمية، وحنظلة ابن الربيع الأسدي، ومعيقل ابن أبي فاطمة، وعبد الله ابن الأرقم الزهري، وشرحبيل ابن حسنة, وعبد الله ابن رواحة، وغيرهم، وكان أُبي ابن كعب هو أول من كتب له بالمدينة، هؤلاء كتاب الوحي، كتاب قليلون لكن هذا الكتاب كُتب.

الفرق بين معجزة النبي وبين المعجزات السابقة:

هناك موضوع ثالث لا بد من الإشارة إليه، وهو أن الكتب السماوية السابقة الله عز وجل أمر بحفظها بأمر تكليفي، ولا بد من التفريق بين الأمر التكليفي، والأمر التكويني, الأمر التكليفي لك أن تأتمر، أو ألا تأتمر، كما تقرأ لوحة: ممنوع المرور، والطريق سالك لك أن تسلك هذا الطريق مع أنه ممنوع، لكن إذا خالفت تدفع الثمن، ولك أن تأتمر، لكن الأمر التكويني فعل الله، والأمر التكليفي أمره، فالكتب السماوية السابقة أُمر الأنبياء بحفظها تكليفاً، والأنبياء حفظوها، والدليل:

﴿بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ﴾

( سورة المائدة الآية: 44 )

حفظوها تكليفاً، لكن أتباعهم ما حفظوها، لذلك أضيف على الكتب السماوية السابقة ما ليس منها، فيها إضافة، وتبديل، وتحوير، وتزوير، ذلك لأن المعجزة منفكة عن الكتاب، لا يوجد علاقة بين الكتاب والمعجزة، سيدنا عيسى أحيا الميت، والإنجيل كتاب الله، سيدنا موسى جعل البحر طريقاً يبساً، وكتابه التوراة، لكن القرآن الكريم له استثناء خاص، ذلك أنه كتاب لكل البشر, قال تعالى:

﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾

( سورة الأنبياء الآية: 107)

﴿إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً﴾

( سورة البقرة الآية: 119 )
وهو آخر الكتب، وسيبقى إلى يوم القيامة، حتى إن السيد المسيح يتلو القرآن الكريم حينما يعود إلى الحياة, قال تعالى:

﴿يَتْلُو صُحُفاً مُطَهَّرَةً * فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ ﴾

( سورة البينة الآية: 2-3)

فالقرآن الكريم لأنه كتاب لكل البشر، ولأنه كتاب ينبغي أن تكون معجزته فيه، معجزة النبي عليه الصلاة والسلام في القرآن، فإذا فقد الكتاب معجزته فقد قيمته، لذلك تولى الله بذاته حفظ كتابه، فقال:

﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾

( سورة الحجر الآية: 9 )

أنت حينما آمنت بهذا الكون الذي ينطق بوجود الله ووحدانيته وكماله، وحينما آمنت بأن هذا القرآن كلامه من خلال إعجازه، وحينما آمنت بأن هذا الذي جاء به نبيه من خلال كتابه أخبرك القرآن أن الله تولى حفظه، وأنا لا أريد أن أدخل في متاهة الأدلة التفصيلة على أن هذا الكتاب حُفظ، أن تعتقد أنه محفوظ، وأن الذي تقرأه الآن هو الكتاب نفسه الذي جاء نبينا عليه الصلاة والسلام، هذه قضية إيمانية تؤكدها الآيات القرآنية، لذلك قال تعالى:

﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾

( سورة الحجر الآية: 9)

المواضيع التي يضمها القرآن:

أيها الأخوة، هذا القرآن الكريم الذي نزل بلسان عربي مبين، والذي نزل على قلب سيد المرسلين، وهو آخر الكتب، نزل على آخر الأنبياء والمرسلين، هذا القرآن الموضوع الأول الذي عالجه هو التوحيد، لذلك يمكن أن تقول: إن كل الكتب السماوية جاءت بالتوحيد، والدليل:

﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ ﴾

( سورة الأنبياء الآية: 25)

والتوحيد ألا ترى مع الله أحدا، التوحيد أن ترى أنه لا معطي ولا مانع إلا الله، ولا خافض ولا رافع إلا الله، ولا معز ولا مذل إلا الله، والتوحيد أن تعتقد أن الله لم ولن يسلمك إلى غيره, قال تعالى:

﴿وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ﴾

( سورة هود الآية: 123 )

وبعد التوحيد جاء التشريع، ومعظم القرآن المكي يؤكد معنى التوحيد، ومعنى الربوبية، ويؤكد اليوم الآخر، ثم جاءت آيات التشريع في المدينة المنورة تتحدث عن المعاملات التي إن صحت صحت العبادات.

والحمد لله رب العالمين